لا يعلم أحد ماذا كان سكان سورية يفعلون في زمن حروب المصريين بقيادة رعمسيس الثاني والحثيين بقيادة الملك حاتسولي في مطلع القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وكان المصريون والحِثِّيون قطبي ذلك الزمان الأكبر، فاستمرت تلك الحرب أكثر من خمسة عشر عاماً، وأنهكت الطرفين حتى لم يعد ممكناً معرفة من هو المنتصر بين الطرفين اللذين ادّعى كلاهما الفوز والمجد في نقوشه ورُقُمه.

وليس هذا موضوعنا الرئيس، لأننا مهتمون فعلاً بالسؤال الأول، حول ماذا كان سكان سورية يفعلون آنذاك، ولا معلومات حول ذلك في أيّ مصدر. بل إن سورية كانت منذ خمسة آلاف عام موقعاً للعبور والصراع والحروب بين القطبين أو الأقطاب الثلاثة الأكبر في كلّ زمن.

Ad

غير الحثيين، كان المصريون أصحاب الحضارة والعظمة طويلة العمر على صراع نفوذ وفي حالة حرب بين عصر وآخر مع الآشوريين مثلاً، على أرض سورية. كما كان الفرس على صراع وحروب مع الإغريق ثم مع البيزنطيين، على أرض سورية. ومرّت حرب الاسكندر الأكبر وفتوحاته، بل كانت نقطة ارتكازها ومعادها مع تأسيس الدول الهيلنستية بنتيجة تلك الفتوحات، في أرض سورية.

فماذا كان في قدرة أرض سورية أن تفعل، غير المقاومة -السلمية- على طريقة كراديس خالد بن الوليد في معركة اليرموك؟! فتنتج منذ القدم مدناً ودولاً، في «ماري» و«إيبلا» و«يمحاض» وأوغاريت ودمشق وتدمر، تتأسس على الاقتصاد والتبادل والمسالمة وقبول التعدّد وإجبار الأقوياء على التعامل مع التاجر النافع للجميع، ولا بدّ من مداراة مصلحته!

كانت بوابة للأمم حين تدخل أو تخرج، سلماً أم حرباً... ومحطة على الطريق. كانت حلب عقدة طريق التجارة الأكبر والأهم عبر التاريخ: طريق الحرير، ودمشق «شام شريف» نقطةَ التجمع للانطلاق نحو مكة المكرمة تحت لواء «أمير الحج» لمئات السنين، وحتى القرن العشرين.

فكيف تكون سمات شعبٍ يعيش على طريق شعوب العالم في حروبها وتجاراتها وسياساتها؟! في كلِّ مرة يأخذ أشياء جديدة، وتنضمّ إليه مجموعات جديدة، تضيف إليه أوتضفي عليه أحياناً، كما فعلت الفتوحات الإسلامية التي كان السوريون حتى زمانها يعتزون بلغتهم السريانية، فتحوّل أغلبهم بسلاسة وحماسة إلى العربية. ولا يمكن الجزم تماماً في من زاد عن الآخر في تمثّله: السكان المحليون أم الوافدون.

الأكثر احتمالاً أنّ مثل هذا الشعب يكتسب البشاشة، وتغدو في دمه مع الزمن في استقبال الآخرين، إعلاناً عن المسالمة، أو طلباً للأمان ومنحاً له. ويتقن التبادل في كلّ شيء مع القادمين أو العابرين، بل يستبقي من يأنس إليه منهم. وهذا التبادل في الثقافة والمعارف والتجارة والمهارة، يعطي للشعب وجهاً متجدداً باستمرار، وقدرة على الحديث والكتابة فالطباعة والنهوض.

لكن الأكثر أهمية أن مثل هذا الشعب يمتلك موهبة التسويات أيضاً، بل هي سلاحه الأشدّ مضاءً من الأسلحة، منذ أن كانت من البرونز وحتى صارت تعتمد على الصواريخ. ويسجّل التاريخ أن أرض سورية، بعد أن كانت ميداناً للمعارك بين الجبّارين الفرعوني والحثّي طويلاً، شهدت أيضاً توقيع أوّل معاهدة سلام مكتوبة بينهما في التاريخ، تحمل مقدمة وبنوداً قانونية وعسكرية ودبلوماسية تنظّم عملية السلام والعلاقات بالتفصيل.

لذلك لا يشعر السوريون -كثيرون منهم- بالغرابة الآن مع أنباء المفاوضات الرسمية مع إسرائيل، غير المباشرة أو المباشرة لاحقا. وهم يأملون بالخلود إلى السلم، مع عودة أراضيهم المحتلة، التي لا تتعلّق بالسيادة الوطنية وحدها، بل بالمصالح الملموسة لمئات آلاف النازحين الذين يشكّلون جزءاً من الأزمة الاقتصادية الاجتماعية الشاملة في البلاد. لكنهم يشعرون بالقلق من أن تكون تلك المفاوضات مقصودة بذاتها، وترتبط بحاجات عابرة هنا أو هناك.

وكون السوريين أهل تسويات لا ينطبق على علاقاتهم بالآخر فحسب، بل بعلاقاتهم الداخلية أيضاً. فليس مرجّحاً أبداً أن تغرق البلاد بالفوضى في حالة التحوّل السياسيّ نحو أوضاع أكثر حرية وديمقراطية، لأن البحث الدائم عن التسويات جزءٌ من تركيبة هذا الشعب عبر التاريخ، وهذه الخصوصيّة لن تسمح لأي فتنة بالنموّ والتطور إذا ذرّت قرنها.

وما يسمح بمثل هذه الأخطار هو تلك السمات الغريبة أو المصطنعة، التي لا تتعلّق بالسوريين في الجوهر والأساس. من تلك السمات عصبيات آخر الزمان، التي يصطنعها أصحاب المصالح والسلطة والإيديولوجيات وقايةً من احتمالات الاضطرار إلى الخضوع لخيار التحوّل والتغيير والمشاركة والحوار الشامل الذي لا يلغي أحداً، والمتكافئ الذي ينزل بالمحتكرين من عليائهم وعزلتهم.

وجواباً مرتجلاً عن تساؤلنا في مطلع هذا المقال: ربّما كان السوريون يبيعون المرطبات والمأكولات الخفيفة والهدايا التذكارية للمتقاتلين في حرب قادش... في الاستراحة ما بين معركة ومعركة.

* كاتب سوري