ُيروى أن وزارة الثقافة اللبنانية دعت الى اجتماع ضم لجنة لتكريم المخرج الراحل يوسف شاهين في يوم مولده في 25 يناير (كانون الثاني) المقبل، وكان همُّ بعض المجتمعين تكريم شاهين لأنه لبناني، الأمر الذي جعل أحد النقاد السينمائيين يتدخل مخففًا من حماسة البحث عن «هوية» المخرج الراحل، قائلا: ليكن العنوان تكريم المخرج صاحب الجذور (او الأصول) اللبنانية. والحال أن شخصية يوسف شاهين وثقافته إيماء الى لعبة الأصل الوهمية، فحين توفي، وقبل الحديث عن هويته السينمائية، سارعت بعض وسائل الإعلام البروباغندية الى البحث عن «لبنانية» الرجل، وكأن القضية حرب انتماء، ونشرت إحدى الصحف اللبنانية شهادة ميلاد أو ما يسمى في لبنان بـ{إخراج قيد» لشاهين، تظهر أن هذا الأخير (جبران صوايا) لبناني وما زال مسجلا في دوائرها. يحمل سجله الرقم -134 حي مار الياس. والنافل أن شاهين زار زحلة عام 2001 ، فكرمته البلدية بإطلاق اسمه على شارع حي مار الياس. يؤكد المختار «الزحلاوي» جوزف حوكو أن شاهين غادر الى مصر في أوائل الثلاثينات وعاش فيها، وفي الخمسينات زار زحلة للمرة الأولى بعد مغادرته الى مصر، وكانت برفقته الشحرورة صباح والفنان شكري سرحان، وفي العام 1995 كانت الزيارة الأولى له إلى مدينة زحلة بعد انتهاء الحرب اللبنانية، حيث زار نسيبته «الوالدة حنينة» كما كان يدعوها. في تلك الزيارة، فتّش شاهين عن مفتاح منزله الذي كان يهوى اللعب فيه وأصر على الاحتفاظ به كذكرى غالية لمنزل شهد ولادته. اليوم، لم يتبق من هذا المنزل سوى واجهته الخارجية بأبوابها الخشبية الثلاثة، وتحولت غرف المنزل الضيّقة الى مستودعات تجارة. حتى اليوم ما زال المختار حوكو يحتفظ بأرشيف شاهين الذي يضم العشرات من الصور للمخرج وعائلته في منزله في زحلة، بالإضافة الى أرشيف يتضمن كل ما كتبت الصحافة اللبنانية عن «المخرج الزحلاوي» كما يصر حوكو على القول. ولد شاهين أو جو عام 1926 وهو ابن لأسرة من أصل لبناني هاجرت إلى مصر في أوائل القرن التاسع عشر لأب كاثوليكي وأم يونانية. كذلك، هو ابن لمدينة استثنائية، الإسكندرية حيث ترعرع عندما كانت من أهم موانئ البحر الأبيض المتوسط وملتقى جاليات أجنبية من شتى أصقاع أوروبا، أما تعليمه فكان مزيجًا من الفرنكوفونية والانغلوساكسونية، فبعد دراسته في مدارس فرنسية تلقى تعليمه الثانوي في «فكتوريا كولدج»، وكانت مدرسة النخبة الارستقراطية في منطقة الشرق الأوسط. تظهر «هوية» شاهين من خلال أعماله، وليس من خلال «إخراج قيده»، فهو لم يكن لبنانيًّا ويمكن القول إنه لم يكن مصريًّا، كان اسكندرانيًّا(ابن الاسكندرية)، تدور معظم أفلامه في فلك مدينته التي أحبها وتربى في كنفها، وقدم سيرته في سيرتها، عرف كيف يزاوج بين سيطرة كبيرة على اللغة السينمائية، وبين حساسية رجل مصري آت من ضفة مدينة الاسكندرية وعالمها ومن التاريخ المصري الحديث. أفصح عن غرامه بالإسكندرية وعشقه على لسان محسن محيي الدين في فيلمه «اسكندرية ليه» (1979) حين تنهد محسن قائلاً: «آه يا اسكندرية يا ريتني ما اتولدت فيكي...» وكأن الاسكندرية هي التي جرت على شاهين الشقاء! والسؤال الذي طرحه هذا الأخير في «اسكندرية ليه» كان سؤال الموهبة، على الأقل سؤال بطله الشاب الذي لم يتجاوز العشرين من عمره (سماه يحيى شكري أو اختصار «ي. ش»، أي يوسف شاهين). كانت مصر تعيش وقع الحرب العالمية الثانية ويتداعى مجتمع الاسكندرية بفسيفساء تعدّديته وكوزموبوليتيته.صفعة عمر الشريفالحديث عن «هوية» شاهين يذكرنا بالحادثة التي تعرض لها الممثل عمر الشريف، فلطالما تحدث بعضهم عن هويته المصرية (وهو من أصل لبناني اسمه يوسف ديمتري شلهوب)، لكن حين حدث معه إشكال مع شرطي في فرنسا تهافت بعض الصحافيين المصريين الى القول «إنه لبناني» لمجرد أنه تورّط في إشكال سيئ السمعة، بمعنى آخر تحب الجماعات مجد الشخص وليس سيئاته. المفارقة أن شاكيرا أصلها من زحلة أيضاً، وزارت المدينة قبل نحو سنتين.هذا العام كان موسمًا للحديث عن الأصول اللبنانية بامتياز، رحل طبيب القلب العالمي مايكل دبغي وتهافتت الصحف اللبنانية للحديث عن أصوله، وثمة من يسعى الى تكريمه من خلال الجامعات اللبنانية، ولكن المفارقة أن الذين تحدثوا كثيرا عن أصوله لم يشاركوا في جنازته، هنا نعود الى «جنون الانتماء».كان للفن حصته في حديث الأصل والفصل أيضًا، إذ افتتحت المغنية المكسيكية (ذات الاصول اللبنانية) استريدا حداد مهرجانات بعلبك الدولية، وهي التي يتجسد بشخصها وبحضورها المسرحي والاستعراضي وبصوتها وأزيائها وأدائها، كرنفال مكسيكي متحرك او متحف ثقافي جوال للثقافة الشعبية اللاتينيو ـ أميركية، لم تقدم استريدا الأغاني اللبنانية كي نتحدث عن أصولها. إنها ظاهرة «معولمة» استعراضية -غنائية- مسرحية مدهشة وسريعة التحوّل. تغيّر أساليبها الغنائية ومواضيعها، مثلما تغيّر قبعاتها الاكزوتيكية وأثوابها المزركشة التي صممت غالبيتها الرسامة السوريالية المكسيكية الشهيرة فريدا كاهلو. تختصراستريدا بأنوثتها الصارخة والمتحدية جميع النساء، وتحتوي أغانيها عوالم المرأة المعاصرة تبايناتها ومفارقاتها كافة. رحبت بالجمهور المستمع بإنكليزية مكسرة، وتحدثت عن جمال النظافة التي شاهدتها في لبنان، قائلة «كل شيء في لبنان اسمه سوكلين»، وتمنت على السياسيين اللبنانيين أن يحملوا شعار {سوكلين} على أكتافهم! استريدا مواطنة الممثلة سلمى حايك (من أصول لبنانية) والملياردير كارلوس سليم (من أصول لبنانية أيضًا).موجة ميكابعد موجة المغنيين «مساري» (مقتبس من مصاري) وكارل وولف، أتت موجة «ميكا» في وسط بيروت، يعني اسمه «كيسًا بلاستيكيًّا» باللهجة المغربية. هذا المغني، الذي عاش طفولته بين بيروت وباريس وانتقل مع عائلته الى لندن حيث استقر فيها وتخرج في المعهد الملكي للموسيقى «وستمنستر»، بدأ مشواره الفني عام 2007 مغنياً ومؤلفاً وعازفاً على الغيتار والبيانو. انطلق مع فرقته الموسيقية الى أنحاء العالم وكانت تلك الجولات بداية لشق طريقه الى النجومية. أصدر ألبومه الأول «الحياة في حركة كرتونية» السنة الماضية، وبيع منه أكثر من أربعة ملايين نسخة، تضمن مجموعة من أشهر أغانيه مثل «خذها بسهولة» و «الحب» و{فتاة كبيرة». أما أغنيته الجديدة «غريس كيللي» فكانت نقلة نوعية في حياته الغنائية المبكرة ارتقت به الى الشهرة العالمية في فترة اعتبرها النقاد، قياسية لشاب ما زال في مقتبل العمر. حاز ميكا عام 2007 على عدد من الألقاب من بينها «أفضل فنان بريطاني» و «أفضل فنان ترفيهي» و{أفضل مغني بوب روك» و «أفضل مغني سولو لبناني الأصل» و «أكثر الفنانيين الشباب مبيعاً» فضلاً عن أنه تصدر لائحة الأغاني المنفردة. يقول ميكا: «أحرص على أن تكون كلمات أغنياتي مستمدة من الواقع الذي عشته خصوصاً أنني قضيت طفولتي في بيروت، وأحاول المزج في ألحاني بين الحزن والفرح إشارة الى مراحل حياتي المتقلّبة بين هاتين الصفتين».على الرغم من قصر مسيرته الفنية نسبةً إلى من سبقه من الفنانين العرب الذين غنوا بالإنكليزية مثل مساري وكارل وولف، إلا أن ميكا تفوق عليهم وأضحى أقوى، وما يدل على ذلك وصول ألبومه الأول إلى المركز الأول في جميع الدول الأوروبية، في حين أن ألبومات مساري وغيره من العرب الذين غنوا بالإنكليزية لم تصل إلى أية قائمة عالمية، بالإضافة إلى أن أغاني السنغل والألبوم الخاص به وصلت إلى قائمة أفضل مبيعات ألبومات وأغاني منفردة عالمية باسم «يونايتد وورلد شارت».قبل أن نختم حديثنا عن لعبة الأصل، ربما علينا أن نذكر الكاتب اللبناني الأصل راوي الحاج الذي فاز بجائزة دبلن الأدبية الدولية وقيمتها مئة ألف يورو عن أول أعماله الروائية «لعبة دي نيرو»، وهي تتحدث عن أصدقاء طفولة كبروا في بيروت أثناء الحرب الأهلية.يصف الحاج في كتابه الخيار المؤلم الذي اضطر الأصدقاء إلى اتخاذه بين البقاء في المدينة وتعزيز قوتهم من خلال الجريمة، أو العيش في المنفى. وصفت لجنة التحكيم الرواية الأولى للكاتب بأنها بليغة ومباشرة ومكتوبة بأسلوب جميل.هذا غيض من فيض عن موضوع لا ينتهي، عمره من عمر لبنان، لأن العولمة اللبنانية سبقت العولمة الراهنة.
توابل - ثقافات
من يوسف شاهين الى ميكا هذيان الحديث عن الأصل اللبنانيّ
07-09-2008