تنسل الضحكات والهمسات وسط ظلام المسرح مثل النسيم العليل. ينفتح الستار ويعلو صوت «بوشكا»، تلك السيدة العجوز التي عينت نفسها وصيّة على تربية الأولاد وتعليمهم حسن السلوك. تصيح: «سكوت! دفع الناس المال...».تدخل سفينة «غوليفر» متأرجحة إلى المسرح وهي معلّقة بقطع خشبيّة. فتنزلق على بحر من القماش الشفاف الرقيق. وسرعان ما تتحطم، ويأسر رجل ضخم أقزاماً صغار. ثم يتطوّر العرض إلى ساعتين من الخدع البصرية جامعاً على المسرح الدمى الضخمة والممثلين والشخصيات الصغيرة لينقل إلى المشاهد فوضى الأحجام والأشكال في هذه الرواية. تراقب عيون المشاهدين أحداث القصة بذهول. إنها ليلة أخرى في مسرح «أوبرازتوف الوطني للدمى»، في روسيا نموذج خلفته وراءها ثقافة الدولة السوفياتية. لم تتراجع شعبيته رغم أن الحياة في موسكو صارت أكثر سرعة وتعقيداً.خارج أبواب المسرح يسير الروس بخطى سريعة. فقد بدأ الشتاء القارس يرخي بظلاله على الشوارع. وفي باحة قريبة ترى مجموعة من الرجال متحلقين يتجاذبون أطراف الحديث. وعلى طول خطوط «غاردن رينغ» (مستديرة الحديقة) الستة تسير السيارات ببطء وتثاقل على مدار الساعة. ولا يقطع تدفقها إلا موكب أحد أبرز رجالات روسيا الذي يمر مسرعاً في سيارته السوداء بزجاجها الداكن.عندما تدخل المسرح، يطالعك ضوء أبيض دافئ يتهاوى على صالة مسرح مكتظة بالمشاهدين. ويمكنك أن تدفع أقل من عشرة دولارات لتحصل على مقعد في هذه الصالة وتهرب إلى عالم ممتع من الأصوات العالية والألوان الزاهية والخيال النابض. في هذا المجال يوضح مدير المسرح أندري لوتشن: «تتخطى الفرص المتاحة أمام مسرح الدمى ما هو مألوف في المسرح العادي. إذ يمكنك ابتكار ما يحلو لك، فما من أمر مستحيل في عالم الدمى».حنين يبدو مسرح الدمى ضائعاً في زمن آخر، زمن يقيه من تأثيرات مسيرة التاريخ الروسي المظلمة. فعندما ترتفع الأنظار وتدخل الدمى لتلهو وترقص على المسرح، ينتشر في الأجواء عبق قصص خرافية قديمة ومواقد ورحلات في خيال فصل الشتاء.تخبر ألكسندرا غوربونوفا (58 عاماً) وهي تجاهد لترتدي تنورة داخلية ورديّة: «ما زلت أؤدي أدور فتيات صغيرات ولا يراني أحد مسنة أو جدة. هذا مذهل حقاً». يعمل المشاركون في هذا المسرح ستة أيام أسبوعياً، بحسب غوربونوفا، ويتقاضون نصف أجر. فيعادل متوسط رواتبهم أقل من 430 دولاراً، وهو مبلغ ضئيل في المدينة الأغلى حول العالم. على الرغم من ذلك، يبذلون قصارى جهدهم ليُنجحوا العرض ويعتبرون أنفسهم ممثلين.يبدو الحنين أحياناً أقوى من أي عقيدة روسية، وهو يشكّل غالباً جزءاً من عالم الأطفال. فمعظم رموز موسكو التي نجت سالمة من عهد السوفيات هي نصب ترتبط بالطفولة. مثلاً، عندما أقفل صاحب متجر الدمى الشهير ديتسكي مير أبواب متجره الذي يضم في وسطه لعبة الأحصنة الدوارة، بسبب أعمال التجديد والصيانة هذه السنة، تعالت أصوات حماة التراث احتجاجاً.تراث في هذا المسرح الذي يرجع إلى 77 سنة مضت، يبدو المشاهدون الأكبر سناً وكأنهم يبحثون عن جزء من شيء ما زالوا يتذكرونه. تتذمر يلينا كوتوفا من أن حفيدتها البالغة خمسة أعوام تعيش في لندن وتفقد هويتها الروسية. لذلك عندما تأتي سنوياً لزيارة جدتها، تصطحبها كوتوفا مباشرة إلى مسرح الدمى. تخبر كوتوفا وهي تربت على شعر حفيدتها الأشقر: «عندما كانت والدتها في مثل سنها، اعتدنا التردد على هذا المسرح باستمرار، فقد أحببناه كثيراً».لا يبدو المسرح مميزاً من الخارج. فهو أشبه بصخرة، لكن على غرار الساعة التي تزيّن واجهته وتنفتح أبوابها كاشفة عن شخصيات من التراث الروسي تروح تدور وترقص، يخفي وجه هذا المسرح الجامد كنوزاً ملونة كثيرة وراءه.تسكن متحف المسرح مئات من الدمى من حول العالم وهي مخبأة وراء الزجاج بعد أن تقدمت في السن وانحنت وصارت هشة. كذلك يضم هذا المبنى مشغلاً يصنع فيه الحرفيون مشابك الأحذية من الورق ويخيطون أزياء صغيرة، ويقلقون بشأن تعليق فك خشبي بطريقة يبقى معها رخواً كفاية.في صفوف المقاعد المخملية المكتظة يجلس الأولاد المدللون وعلامات الذهول بادية على محياهم. وتنظر النساء البدينات المتقدمات في السن من خلال نظرات قديمة مخصصة للأوبرا. يبدو البهو قاتماً والجدران خالية. وتتركز الأنظار كافة على خشبة المسرح.تُصمَّم هذه العروض للكبار أيضاً. تقدّم الفرقة أعمالاً لبوشكين وكيبلينغ وأعمالاً من الكتابات الدينية. وفي ليلة رأس السنة يتدفق أهل موسكو إلى هذا المسرح ليشاهدوا إنتاجاً بات يُعتبر علامة فارقة تميز مسرح الدمى: «الحفلة الاستثنائية» التي تجاوز عمرها الستين سنة. ويتمحور العرض الكوميدي هذا حول دمية تقدّم البرنامج. وأعيدت في السنوات الأخيرة صياغة نكاتها لتشمل إشارات إلى الإنترنت ومظاهر الفساد.أسس مسرح الدمى سيرغي أوبرازتوف، سيد الدمى الذي ما زال يُعتبر حتى اليوم أحد أبرز المبدعين في هذا المجال. وعلى الرغم من مرور 16 عاماً على موته، لا يزال شخصية محبوبة جداً على الصعيد المحلي في روسيا.وتبقى قصص أوبرازتوف أسطورة في المسرح الذي يحمل اسمه: كيف كان يتشارك شقته مع قطط وتماسيح أحضرها معه من أسفاره، وكيف وُلد خلال عهد القياصرة وعاصر الثورة والحرب والشيوعية ونعت، على الرغم من ذلك، إنهيار السوفيات بأسوأ عصر على الإطلاق لأنه دفع بالشحاذين والموسيقيين الموهوبين إلى شوارع موسكو. لكن الأهم أن الجميع يذكر هوس هذا الفنان ببث الحياة في قطع الخشب والثياب، إنها معجزة رمزية في عالم الدمى.اليوم، تدير حفيدته يكاترينا أوبرازتوف (52 عاماً) العروض في المسرح. وخلال مسرحية «رحلات غوليفر» التي تنتجها، تنسل إلى داخل الصالة فيما يستمر العرض وهي متزينة بالخرز والأوشحة الحريرية، فتتأمل بقلق الصالة الممتلئة. حول تجربتها تخبر أوبرازتوف: «يعيش الأولاد حياة مختلفة راهناً. يشاهدون برامج مسليّة كثيرة والصور المتحركة. حتى نمط حياتهم بات مغايراً، لكن لسبب ما، يتأقلمون في مسرح الدمى مع وتيرة مختلفة وهم مسرورون بوجودهم هنا وبمشاهدتهم هذه المسرحيات وفهمها».
توابل - ثقافات
الدمى المتحركة... ألوان زاهية في تاريخ روسيا المظلم!
30-12-2008