أحسنت الإدارة الأميركية الجديدة الاختيار حين حددت القاهرة كمكان يتوجه منه الرئيس باراك أوباما بخطابه إلى العالمين العربي والإسلامي، فأمام الولايات المتحدة اليوم تحديات خمس كبرى لا تحتمل التأجيل هي:

1- مستقبل التسوية السلمية في الشرق الأوسط، 2- التعامل مع ملف إيران النووي ونفوذها الإقليمي المتصاعد، 3- إدارة خروج القوات الأميركية من العراق، 4- البحث عن حلول لكارثة انهيار الأوضاع الأمنية في أفغانستان وباكستان، 5- إعادة تعريف مفردات العلاقة الأميركية بالعالم العربي والإسلامي على نحو يتخطى الخبرات السلبية التي تراكمت خلال أعوام بوش الماضية في سياق الحرب على الإرهاب والتدخل العسكري في أفغانستان والعراق. ومع ثقل هذه التحديات وتواكبها على نحو يحتم على الولايات المتحدة التحرك إزاءها جميعا في نفس الوقت، تحتاج إدارة أوباما للتعاون الوثيق مع حلفائها في العالم العربي والإسلامي ومصر في هذا الصدد دولة مركزية شأنها في ذلك شأن تركيا والسعودية. ثم إن للقاهرة في محيطها العربي والإسلامي أهمية رمزية وثقافية ودينية لم تخطئها عين أوباما وشجعته ولا ريب على تجاوز ما وجه لاختياره من انتقادات على خلفية سجل مصر محدود النجاح في مجالات الديمقراطية وحقوق الإنسان.

Ad

وبعيدا عن سيل التسريبات والمبالغات الإعلامية حول محتوى خطاب أوباما، يدلل الحراك الدبلوماسي الذي شهدته العاصمة واشنطن خلال الأيام الماضية وبها استقبل الرئيس وأركان الإدارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الفلسطيني محمود عباس والوزيرين عمر سليمان وأحمد أبو الغيط على أن القضية الفلسطينية ومعها مستقبل التسوية السلمية في الشرق الأوسط ستشكل أبرز محاور الخطاب. المتوقع هنا، وبعد أن حدد الرئيس ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون عبر سلسلة من البيانات والتصريحات الصحافية مبدأ حل الدولتين كنقطة الارتكاز الاستراتيجية الأساسية للتوجه الأميركي، أن يطرح أوباما تصورا متكاملا لتفعيل هذا المبدأ وترجمته لمجموعة من الإجراءات والخطوات الدبلوماسية والسياسية على الأرض.

وأغلب الظن أن مفردات التصور الأميركي ستدور حول:

1- مطالبة إسرائيل بوقف كل أشكال النشاط الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، 2- دعوتها إلى ضبط النفس في ما يتعلق باستخدام القوة العسكرية في الضفة الغربية والقطاع وكذلك دعوة الفصائل الفلسطينية إلى التزام تهدئة شاملة، 3- الإشارة إلى أهمية إعادة النظر في الحصار المفروض على غزة، 4- مطالبة الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية بالشروع مباشرة وبوساطة أميركية في مفاوضات الحل النهائي على أساس خارطة الطريق وصيغة أنابوليس والمبادرة العربية للسلام وهم جميعا يعتمدون مبدأ حل الدولتين، 5- التشديد على الشراكة بين الولايات المتحدة والفاعلين الإقليميين كمصر والسعودية والأردن بهدف مساعدة الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني على إدارة العملية التفاوضية ووضع سقف زمني واقعي لها.

على أهمية المفردات السابقة وكونها تعبر عن تحول نوعي وإيجابي في التوجه الأميركي إزاء مسألة النشاط الاستيطاني الإسرائيلي واستخدام القوة العسكرية ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع نحو رفض صريح بعد طول قبول لكليهما من جانب إدارة بوش، إلا أن المسكوت عنه هنا هو حقيقة التعنت المستمر لحكومة اليمين الإسرائيلية التي أضحت اليوم تشكل عقبة كبرى أمام تفعيل التوجه الأميركي من جهة، وعجز إدارة أوباما عن تحديد موقفها من قضية يهودية دولة إسرائيل ومن حركة حماس وحدود دورها في المشهد السياسي الفلسطيني من جهة أخرى.

سياسيا رفضت حكومة نيتنياهو التزام تهدئة عسكرية شاملة، فقامت قواتها قبل أيام بغارات على المنطقة الحدودية بين غزة ومصر، واغتالت أحد قياديي «حماس» في الضفة، كما لم تخف حكومة اليمين امتعاضها من مطالبة أوباما بوقف النشاط الاستيطاني.

استراتيجيا مازالت الهوة واسعة بين رغبة أوباما في دفع الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني إلى مفاوضات حل نهائي تعتمد مبدأ حل الدولتين، وحديث نتنياهو عن سلام اقتصادي، وتشكيك وزير الخارجية ليبرمان وغيره من المتشددين (ومعهم قطاع واسع من الرأي العام في إسرائيل) في جدوى الالتزام بالمرجعيات الدولية المستندة إلى حل الدولتين كخارطة الطريق وأنابوليس.

ويتواكب مع التعويق الإسرائيلي لتوجه إدارة أوباما، وهو مرشح للتصاعد في الفترة القادمة، عجز الأخيرة عن تحديد موقفها الاستراتيجي من قضية يهودية دولة إسرائيل وتداعياتها الخطيرة على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين وعلى وضعية عرب 1948. كذلك لم تحسم الإدارة أمرها في ما يتعلق بموقفها من «حماس» وما لبثت على ترددها حيال فرص تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية وتأرجحها بين انفتاح جزئي على الحركة في غزة وتخوف كبير منها ومن تحالفاتها الإقليمية (طهران ودمشق).

وبجانب تناول الملفات العالقة مع إيران لجهة التأكيد مجددا على الرغبة الأميركية في التفاوض معها، والبحث عن حلول سلمية لبرنامجها النووي والتعاون معها في العراق وأفغانستان بهدف إعادة الاستقرار، ثم التشديد على نزوع الولايات المتحدة للانفتاح على أطراف إقليمية ناصبتها العداء خلال الأعوام الماضية كسورية، وطلب مساعدتها في تأمين خروج هادئ للقوات الأميركية من العراق، سيفرد أوباما مساحة في خطابه لصياغة رؤيته لمستقبل الشرق الأوسط ومستقبل العلاقة مع العالمين العربي والإسلامي.

وقناعتي أنه سيوظف خطاب القاهرة لإقناع العالم بأن القطيعة مع سياسات وممارسات سلفه بوش المرتبطة بالحرب على الإرهاب، وبالتدخل العسكري في بلاد العرب والمسلمين هي نهائية وشاملة. سيطوي أوباما صفحة الحرب على الإرهاب بصياغتها البوشية التي خلطت جزئيا بين الظاهرة الإرهابية والإسلام، واعتمدت العمليات العسكرية الانفرادية إطارا وحيدا للفعل الأميركي، ويستبدلها بمقاربة توصف النشاط الإرهابي لحركات كـ«طالبان» وتنظيمات كـ«القاعدة» كتهديد للسلم العالمي يستدعي لمواجهته أمنيا وسياسيا ومجتمعيا شراكة بين الولايات المتحدة والقوى الدولية الفاعلة والدول الإسلامية والعربية المؤثرة إن في أفغانستان وباكستان أو في الشرق الأوسط.

ثم يلي ذلك إسقاط الحرب على الإرهاب كسياق لصياغة العلاقة بين واشنطن والعالم الإسلامي بالتأكيد الإيجابي على أن الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة هما خيط هذه العلاقة الناظم، وليس مقاربة خوف وشك ومواجهة. ومع أن هناك غيابات مهمة متوقعة في خطاب أوباما، أبرزها موقف إدارته من قضايا الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي والتداعيات السياسية لتعثر مساراتهما، إلا أن الشمولية المتوقعة للخطاب ومفرداته الإيجابية في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ووعده بالانفتاح على الجميع وكاريزما أوباما ستضمن للخطاب على الأرجح مصداقية عالية لدى الجمهور المخاطب من القاهرة، عموم العرب والمسلمين.

يستحق أوباما أن نستمع له وأن نتعامل بجدية وإيجابية مع رغبته تغيير وجهة الفعل السياسي الأميركي في عالمنا وترشيد ممارساته بعد كارثية الأعوام الماضية. لن تتبنى الإدارة الجديدة كل قضايانا ولن تتخلى عن تحالف الولايات المتحدة الاستراتيجي مع إسرائيل، على الرغم من الأزمات المتوقعة بينهما في الفترة القادمة إن بشأن القضية الفلسطينية أو الملف النووي الإيراني. ومع ذلك تظل إمكانية تبلور فعل أميركي أكثر توازنا وانفتاحا على مصالح العرب والمسلمين قائمة وحقيقية، ويجب علينا استغلالها والعمل على تطويرها.

* أكاديمي مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء