كانت أسمهان تعاني مشكلة الغناء في مجالس السيدات، فهي لم تنس أنها كانت حتى العام 1939 وما قبله «الأميرة آمال الأطرش» أو هكذا كانت تلقب، لذلك كانت تعتقد أنها أرفع حسباً ونسباً من هؤلاء السيدات، فلماذا تقف أمامهن، أو بين أيديهن، موقف المطربة أو «الارتيست» الأجيرة؟ تغني لهن مقابل دعوة شخصية من صديق أو صديقة، أو حتى لمبلغ من المال، في حين أنها لم تكن تجد حرجا في ذلك أمام الرجال ولا يمس كبرياءها إن هي غنت أمامهم في أي مجلس وفي أي مكان، لأنها كانت تنظر إلى الرجال عامة على أنهم «مراهقون» بين يديها يمكنها دائما أن تحركهم كما تشاء، وتسخرهم كما تشاء، وتلهو بهم ثم تصرفهم حينما تشاء، كانت شديدة الاعتداد بنفسها وبأنوثتها وقوتها أمام الرجال، لكنها كانت تحس بضعف مركزها أمام السيدات.

Ad

كانت الأميرة شويكار، الزوجة الأولى للملك فؤاد، تعطف على أسمهان وتحبها وتحب صوتها وفنها، وكثيرا ما أغدقت عليها المال وأجزلت لها بالعطايا، وقد دعتها مرة إلى إحياء حفلة خاصة في قصرها أمام بعض سيدات القصر والأميرات، لكن أسمهان اعتذرت ولم تلب تلك الدعوة بحجة المرض مع أنها كانت ستحصل على خمسمائة جنيه على الأقل من الأميرة شويكار التي سبق أن رفضت دعوتها مرتين أو ثلاث على رغم أنها كانت تعاني ضيقا ماليا مستحكما، وكان رأي أسمهان الشخصي في دعوة الأميرة شويكار: عاوزاني أروح إلى قصرها وأقف أمام شوية ستات علشان إيه؟ علشان هي أميرة؟ أنا كمان أميرة؟

أسمهان تكره أسمهان

عاشت أسمهان حياتها الفنية والاجتماعية وهي تتمسك باسمها الأصلي «آمال» وتكره أن تنادى باسم أسمهان بين الأصدقاء، وفي اليوم الثالث لعيد ميلاد الصحافي محمد التابعي، أي غداة الحفلة التي أقامها الأخير في منزله بمناسبة عيد ميلاده، أراد أن يصلح ما أفسده بالأمس، عندما أخرج حافظة نقوده وهمّ أن يعطيها أجرها عن الغناء، فأرسل لها باقة من الزهور مع بطاقة شكر كتب عليها: «إلى السيدة المحترمة المطربة أسمهان... مع خالص تقديري بشخصكم الكريم... محمد التابعي».

ما أن استلمت أسمهان الأزهار حتى ثارت ثائرتها واتصلت بالتابعي وانفجرت في وجهه بقولها: أستاذ محمد يظهر أننا مش رايحين نفهم بعض؟

- لماذا، هل أخطأت في شيء؟ هل الزهور لم تعجبك؟ فهي دليل إعجابي بشخصكم الكريم.

- أستاذ محمد، أكره اسم «أسمهان» لأنه ليس اسمي، وإنما هو اسم مستعار اختاره لي الملحن داود حسني، وقبلت به كي أتخفى وراءه حرصا مني على عدم جرح كبرياء الأسرة، غير أنني لم أحبه منذ البداية، خصوصًا عندما ذكر لي أنه اسم فتاة كان اكتشفها ودربها، لكنها ماتت قبل أن تنال شهرتها.

- لديك حق فهذا فأل سيئ.

- ثم تأتي أنت وتذكرني به كل دقيقة، فقد قبلت في أول الأمر عندما كنت تناديني «مدام أسمهان» لأننا كنا في بداية تعارفنا، لكن الآن وبعد أن أصبحنا أصدقاء مقربين، لن أدعك تناديني به، فأصدقائي المقربون ينادونني باسمي الحقيقي وهو «آمال» أما الأغراب فهم وحدهم الذين ينادونني أسمهان، فهل تعتبر نفسك صديقا أم غريبا؟

- لكن صدقيني، لم أكن أعرف أن لك اسما آخر.

تابعت ثورتها على التابعي قائلة: والآن عرفت، كما أن حكاية المطربة التي كتبت عنها (وتقصد نفسها) انساها أحسن لك إذا كنت تود أن نبقى أصدقاء؟ أما إذا كنت تعرفني من أجل صوتي فحسب وكي أغني لك، فمنذ اليوم أنا من هنا وأنت من هناك، يعني نقطع صداقتنا.

- صدقيني هذه أول مرة أسمع أن لك اسما آخر، وكان من الأولى بك بدلاً من أن تعنفيني هكذا أن تذكري لي اسمك الحقيقي منذ أول يوم تعارفنا به، لكني أعدك أنني لن أناديك بعد اليوم سوى بـ «الأميرة آمال».

هدأت ثورة أسمهان وردت بنعومة: بالنسبة لك أنت بتكفي «آمال».

بكاء أسمهان

وجد التابعي نفسه حائرا في أمره مع أسمهان وكان يلاحظ حيرتها أيضا في علاقتها به، ماذا تريد منه؟ ماذا يريد منها؟ فهو لم يحدد موقفه منها ولم يتبين عاطفتها نحوه بالمعنى الصحيح، وكان في معظم مراحل صداقته معها ينظر إليها كفنانة، أي أنه يصادق «المطربة أسمهان» وكفى.. لم ينظر إليها قبلا على أنها إنسانة يمكن أن تكون بينه وبينها صداقة وود وتقدير، ومن ناحيتها كانت تخصه بالحديث عن خوفها مما يخبئه لها المستقبل خصوصا بعد عودتها من الجبل مطلّقة، كانت تخاف أن تعود إلى أيام البؤس والشقاء وكان هذا هاجسها الوحيد، فقد كانت أسمهان مرهفة الحس لدرجة المرض وأي كلمة طيبة من إنسان عادي تكفي لإشاعة السرور في نفسها وفي وجهها المرح، وأي كلمة نابية أو قاسية كانت تكفي لإشاعة التعاسة في وجهها وملء عينيها بالدموع، وكان يزيد تلك الحساسية خيال مضطرب مريض ليس فيه شيء من روح الصبا والشباب وحرارة الرجاء في المستقبل.

ربما كل هذا ما جعلها تتوجه في ذلك اليوم من أيام شهر يونيو (حزيران) إلى مكتبه، ومن دون موعد سابق، ومن دون أن تخبره أنها ستأتي إليه، دخلت إلى مكتبه فجأة مضطربة، كمن أصابتها صدمة عنيفة هزتها من الأعماق، وراحت تبكي من دون توقف، ويحاول التابعي أن يهدئ من روعها، وهو في حيرة من أمرها:

- ماذا بك؟ هل هناك شيء حدث؟، ما كل هذا البكاء؟

- لا شيء.. لا شيء!

- كل هذا ولا شيء؟ إذن ماذا لو كان هناك شيء بالفعل... أشعر أن كارثة وقعت بك؟

صمتت أسمهان طويلا... واحترم التابعي صمتها، قدم لها مشروب الليمون، تناولته ووضعته كما هو، ثم قالت: أنا خائفة!!

- مما؟! هل ثمة ما يخيفك. أعرف أن فؤاد يضيق عليك الخناق، هل فعل معك شيئاً.

- خائفة من الغد، لا أعرف ماذا كتب لي فيه.

هنا جلس التابعي إلى مكتبه وكأنه استراح بعد مشوار طويل كان يلهث فيه.

- لماذا تخافين من الغد؟

- أخشى أن تعود الحياة بنا إلى ما كانت عليه.

- ولو فرضنا جدلا أن هذا يحدث... لا يجب أن يخيفك إلى هذا الحد!! فأنت دخلت مكتبي على وشك الانهيار تقريبا!

- نعم... لأنك لا تعرف ما عانيته وما شاهدته سابقا.

الحظ المتعثر

راحت أسمهان تتحدث إليه عن ماضيها، منذ سيرتهم الأولى في حي «الفجالة» وتعرّضها لسوء التغذية ونضوب المورد الذي كانت الأم تعتمد عليه بعد سفر المليونير الأميركي الذي كان يقدم لهم المال شهرياً، وكيف أنها عرفت الجوع والحرمان حتى أنه في أحد الأيام وقد خلت دارهم من الطعام فأرسلتها والدتها الى الدكتور عبد الرحمن الشهبندر وهو أحد الزعماء السوريين المقيمين في القاهرة الذي كان يعرف أسرة أسمهان لكي يقرضهم بعض المال، فقطعت مسافة بعيدة مشياً على الأقدام، ولما قابلته وأبلغته رسالة والدتها عن سوء حالتهم ناولها «ريالا» واحدا عادت به إلى أمها، ولما رأته بكت وبكت أسمهان وقدرت في حينه أن الأسرة أوشكت على تسوّل قوتها.

تابعت حديثها للتابعي لتحكي له عن اليوم الذي زارت فيه أسرة الأميرالاي محسن بك، وهي ما زالت طفلة، وكيف خرجت في ليلة ممطرة لتعود إلى بيتها مشياً على الأقدام، وكيف بدأت أمها في خياطة الملابس للسيدات لتقيها وشقيقيها شر الجوع، حتى شاءت المصادفة أن تلتقي أمها الملحن داوود حسني، فسمع صوت والدتها وساعدها هو وسامي الشوا، في إحياء الحفلات الخاصة عند بعض العائلات، ليتسع رزق العائلة قليلا، ومرور الأيام ثقيلة بضيقها ومرارتها، حتى تمكنت من الوقوف على مسارح عماد الدين، ولكنها كانت تتألم وتطوي في صدرها الآلام، بل كثيرا ما غالبت دمعتها كي لا تسيل على خدها وهي واقفة تغني أمام جمهور من السكارى يقذفها بالنكات والألفاظ التي تنطلق من أفواه رواد صالات عماد الدين، كانت تشعر أنها لم تخلق لهذا وأحياناً تثور ولكن ما الحيلة؟!

تتابع أسمهان للتابعي: كان يجب أن نعيش وكان عبء العائلة عليَّ وعلى فريد، لأن فؤاد عمل في أحد المحلات في البداية، ولكن بعد أن سافر إلى الجبل وعاد، لم يعد إلى العمل مرة أخرى، واكتفى بعملي أنا وفريد، بالرغم من أنه يعارض عملي طوال الوقت.

- ما ذنبي أن حظي العاثر شاء أن أعمل بالفن أنا وشقيقي فريد لكي تعيش الأسرة، بعد أن أصبح من الصعب العودة إلى الجبل بعد وفاة الوالد وتغيُّر الأحوال والظروف، لذلك حاول بعض أصحاب الصالات أن يطلب مني الجلوس مع زبائن الصالة «أنكاجيه» بعد انتهاء وصلتي الفنية إلا أنني كنت أرفض دائما، وكان فؤاد وفريد يطلبان في كل عقد ارتبطت به من إحدى صالات عماد الدين بألا يلزمني بمجالسة الزبائن، الغناء فحسب.

حيرة التابعي

سكتت أسمهان عند هذا الحد وفي عينيها خوف ثم انحنت على المكتب أمام التابعي وقالت له: طمني يا أستاذ هل ستعود تلك الأيام؟ لم أعد أستطيع الوقوف على مسارح صالات عماد الدين وأعيش الذل والمهانة مجددا!

تنهدت أسمهان وبدأت بالبكاء مرة أخرى، فتركها التابعي هذه المرة تبكي من دون أن يتدخل لتكف عن البكاء، معتبرا أن البكاء سيريح أعصابها المرهقة، وعندما هدأت قالت مرة ثانية: أحب الغناء وأحب دائما أن أغني، لكن أغني لنفسي ولمزاجي، وأغني لمن أحب، ولمن أرتاح لهم.. أما الغناء بالأجر سواء طاب مزاجي أو لم يطب، وأمام أي جمهور، فهذا هو الذي أمقته!!

جعلتني صالات عماد الدين أمقت الغناء، لجنيه واحد كنت أقف على قدمي ساعات طويلة أغني أمام جمهور من السكارى، وأسمع ما أسمع منهم من بذيء اللفظ والمعنى وحتى الحركات المخجلة وتلعيب الحواجب، تلك الأيام التي أدعو الله من كل قلبي ألا تعود، لأنني أفنيت فيها أجمل أيام عمري، الذي أشعر بقصره، فأتوق إلى لحظات جميلة أعيشها بعد هذا الألم وما عانيته من ذل، وقبلهما.. طفولة محرومة جائعة!

لم يجد التابعي شيئًَا يفعله أمام ما سمعه سوى محاولة تهدئة خوفها، وتأكيد جمال صوتها وتفردها بصوت يخطف القلوب، ومن الممكن أن يكون هو طريقها لتحقيق كل الآمال، بل والضمانة الوحيدة لعدم العودة إلى الخلف.

استمعت أسمهان إلى رد فعل التابعي باهتمام، وكانت نفسها هدأت وعادت الابتسامة إلى وجهها قبل أن تستأذن في الانصراف.

غادرت مكتب التابعي، بينما تركته مهموما بما سمعه، فجلس يفكر في ما قالته له عن ماضيها، فلم يمض على صداقته معها سوى أشهر عدة، فهل كانت كافية بأن تؤمنه على ما قالته؟ خصوصا أنه لم يعرف شيئا عن الماضي، ولم يكن مشغولا، هو أو غيره بمعرفته.

شعر التابعي بحيرة حقيقية في أمر هذه السيدة، فقد لمس خلال تلك الأشهر القليلة التي عرفها فيها أن في طباعها تناقضات كثيرة، ومنها أنها قد لا تقول الحقيقة أحيانا، يمكنها عند الحاجة أن تمثل، وأن بكاءها قد لا يدل على حزن أكيد، فقد يكون نزوة، وأن سرورها لا يدل على فرح أكيد، لأنه نزوة أيضا، وأنها تستطيع دائما أن تبكي وتضحك في ساعة واحدة. جلس يحدث نفسه بين مصدق ومكذب: هل أصدقها؟ هل ما قالته صحيحاً؟! وما الذي يجعلها تكذب عليّ؟ فهي ليست في حاجة لأن تكذب عليّ في مثل تلك الأمور.

تحليل الصحافي

عرف التابعي من خلال صداقته لأسمهان التي لم يمر عليها سوى بضعة أشهر، ومن خلال دراسة شخصيتها وتحليلها أنها مزيج من الخير والضعف، وليس الشر، إذ لم يكن في طبيعتها ذرة واحدة من الشر أو حب الشر، لكنها مزيج من الخير والضعف... كانت أسمهان تدرك بعد فوات الأوان أنها أخطأت لكنها كانت أضعف من أن تستطيع حكم نفسها أو ردها عن الوقوع في الخطأ. كانت كل مرة تعد بأنها لن تعود إلى الخطأ، لكنها كانت تعود وتخطئ في حق المقربين منها وأصدقائها.

في اليوم التالي، كان التابعي لا يزال مشغولا بأسمهان، فقد سيطرت بتخوفاتها وقلقها على تفكيره، فقرر بينه وبين نفسه، ونتيجة لتأثره بدموعها أن يقف الى جوارها، فهي بحاجة إلى العطف والحنان والمساعدة، فكان أول ما فعله عندما دخل مكتبه في اليوم التالي أن اتصل بها هاتفيا في مسكنها، وإذا بالسيدة عالية المنذر هي التي تجيب، وتخبره أن أسمهان سافرت بقطار الصباح إلى الإسكندرية!!

هكذا سافرت من دون أن تقول له كلمة عن سفرها، مؤكد أنها كانت تعرف عندما حضرت إلى مكتبه شاكية باكية ليلة أمس، أنها ستسافر اليوم إلى الإسكندرية، ومع ذلك جلست أمامه تبكي وتدعي أنها بحاجة إلى قلب حنون وذراع قوية تسندها.

نتيجة لذلك كان حكم التابعي عليها قاسياً، فحدث نفسه بأن ما فعلته يتناسب مع مهنتها، وليس مع أصلها، فهي الآن «ارتيست» أي أنها مجرد «ممثلة شاطرة»، وقرر أن يمتنع عن الاتصال بها.

التابعي ومصطفى أمين

كان الصحافي مصطفى أمين، سكرتير تحرير مجلة «آخر ساعة»، انتهى من الإشراف على تنفيذ عدد المجلة حين دخل به إلى مكتب رئيس التحرير محمد التابعي، وضعه بين يديه قائلا: العدد كده تماما يا ريس.

نظر إليه التابعي متفحصا وهو يهز رأسه ولم ينطق بكلمة واحدة، ثم نظر إلى مصطفى وهو يبتسم ويهز رأسه بما يعني الموافقة، فواصل مصطفى: هل من ملاحظات؟

- لا تمام كده، عدد هايل. أبعته المطبعة.

تناول مصطفى العدد ثم جلس أمام التابعي وقال: فاكر سيادتك أول يوم خرجت فيه «آخر ساعة» للنور سنة 34، كانت كأنها مولود جديد تنتظر ولادته، كنا نقف منتظرين في المطبعة، وكأننا نقف ننتظر أمام غرفة ولادة!

ضحك التابعي وتحرك من خلف مكتبه وهو يقول: فعلا مولد الصحيفة الجديدة أشبه بمولد الطفل، فيه كل الفرحة التي تسبق الميلاد فتجد اللخمة والهرجلة التي تراها في غرفة الولادة قبل وضع الطفل بدقائق، كذلك لا تستطيع أن تعرف بالضبط متى يتم الميلاد تماما مثل الأطفال، مهما كانت دقة الأطباء وحسابات الأمهات.

يضيف التابعي مستدركا: قبلها كان كل اللي في جيبي ٨ جنيهات فحسب، وقررت أن تصدر «آخر ساعة» وصدرت فعلا، ولا أعرف كيف حدث ذلك حتى الآن!! جنون.. أليس كذلك؟!

- ليس جنونا، بل هو الإصرار على النجاح، والحمد لله تحقق بأكثر ما كنا نتوقع.

توقف التابعي عن الحديث ثم التفت فجأة إلى مصطفى أمين، وقال له: اسمع يا مصطفى ما رأيك في أن تأتي معي إسكندرية.

- إسكندرية؟! متى؟

- الآن أرسل العدد المطبعة وتعال بسرعة، مفيش وقت.

- ما هذه المفاجآت، ولماذا إسكندرية؟ فقد تعودت أن تذهب إلى رأس البر؟

- هل ستظل تتحدث كثيرا؟.. هل ستأتي أم لا؟

- طبعا، وهل دعوة مثل هذه ترفض؟