أحلم بوطن عربي يستعيد قدرته على الحياة ليواجه التحديات العظام التي يفرضها الاحتلال وشيوع الفقر والظلم والتخلف والتطرف بين ظهرانيه... وطن عربي يرفض سكانه تسلط مستبدي الخارج والداخل بسلمية تنبذ العنف وعقلانية جادة لا تنتشي ببطولات وهمية.فكرت طويلاً في موضوع هذا المقال، فهو مقالي الأخير قبل نهاية عام اتصف عالمياً بالاضطراب الشديد، ولم يحدث فيه عربياً ودماء أهلنا التي أراقتها آلة الدمار الإسرائيلية في شوارع غزة لم تجف بعد ما يحفز على التفاؤل حين القيام بجردة الحصاد الختامية. استبعدت إذن كتابة مقال «في وداع العام» التقليدي وقررت تحليلياً القفز فوق الواقع الرديء بتفاصيله المرهقة لأدع طاقة التخيل الإيجابي، وهي دوماً جزء من وجداننا كبشر عندما نتدبر في العام والخاص من الأمور، تملأ الأسطر التالية بأحلامها وتمنياتها «غير الواقعية» للعرب وللعالم في العام الجديد. أحلم ببشرية ترفض ظلم واضطهاد أقويائها لضعفائها وتفعل ضوابط أخلاقية وإنسانية حقيقية لاستخدام القوة في العلاقات الدولية... لن ينهي رحيل إدارة بوش في الولايات المتحدة تلقائياً من نزوع القطب الأعظم نحو توظيف آلته العسكرية للتدخل في ساحات صراع يرى بها تهديداً لمصالحه الحيوية ليعبث هنا ويدمر هناك، كذلك لن تتراجع إسرائيل بإرادتها عن مجازرها ضد الشعب الفلسطيني المحتلة أراضيه واضطهادها المنظم له وحصارها لغزة قتلاً لحركة المقاومة وتجويعاً لأهلها. ولن تختفي مثل هذه الممارسات سوى بانتفاضة بشرية تنتصر سلمياً للمظلومين والمضطهدين، بشرية لا تتواطأ مع الظالم بل تواجه فعلاً وقولاً ورمزاً بقوة ضمير جمعي لم يعد يحتمل مشاهد الوحشية الإسرائيلية، وهي تغتال الفلسطينيين العزل رجالاً ونساءً، وتلقي بدماء أطفال غزة وقوداً لمعارك الأحزاب الإسرائيلية قبيل الانتخابات، ولم يعد يقبل صور قتل المدنيين في أفغانستان والعراق ويلتزم في نفس الوقت بضوابط أخلاقية وإنسانية عليا برفض العنف.أحلم ببشرية ترفض الظلم والاضطهاد داخل المجتمع الواحد وتتدخل جماعياً حين الضرورة لإنهائه، فعالمنا في العديد من أقاليمه يعاني تسلط حكام مستبدين ونخب فاسدة لا سبيل لإصلاحها، تقمع المواطنين باسم الدولة، وتحول بينهم وبين الحياة الكريمة وممارسة حقوقهم المدنية والسياسية، وإزاحة هؤلاء المستبدين لن تتأتى سوى بانتفاضات شعبية مستدامة عمادها معارضة المواطنين السلمية وعصيانهم المدني سعياً إلى تغيير جذري يبني مجتمع الحقوق والدولة المسؤولة ويحيي الأمل في غد أفضل.أحلم بوطن عربي يستعيد قدرته على الحياة ليواجه التحديات العظام التي يفرضها الاحتلال وشيوع الفقر والظلم والتخلف والتطرف بين ظهرانيه... وطن عربي يرفض سكانه تسلط مستبدي الخارج والداخل بسلمية تنبذ العنف وعقلانية جادة لا تنتشي ببطولات وهمية ولا يستغرقها صباح مساء البحث عن خيالات المخلص المنقذ في الصغير من الأفعال... وطن عربي يتوازن بقبول التعددية والتسامح مع الآخر الديني والمذهبي والعرقي على نحو يعيد لنا طاقتنا الإبداعية، ويحيي دورنا كمشاركين حقيقيين في الحضارة البشرية... وطن عربي لا يكتفي بالبكاء بل ينتفض لإنهاء حصار غزة، وإن تمنع هذا الحاكم أو ذاك ويدافع عمن تراق دماؤهم بلا ذنب اقترفوه سوى أنهم يرفضون قوة احتلال غاشمة وعنصرية تثبت كل يوم مدى هشاشة وهم السلام معها... وطن عربي قوي وعزيز أحبه وأفخر بانتمائي إليه.هي هذه أحلامي غير الواقعية عصية المنال بحسابات القوة والسياسة اليوم والمنتهكة مصداقيتها بفعل الوحشية الإسرائيلية المؤيدة بدعم غربي وتواطؤ عربي رسمي تتقدمه- ويا للأسى والأسف- الشقيقة الكبرى، بلدي مصر... بيد أنني أردت من خلالها أن أستقبل معكم أعزائي القراء عامنا الجديد مؤملاً في غد ربما جاء أفضل لنا وأكثر إنسانية وعدالة، إن نحن آمنا بقدرتنا على التغيير وأردناه، فكل عام وأنتم بخير رغم الجراح والدم المراق.* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن
مقالات
رغم الدم المراق... هل لنا أن نحلم بغد أفضل؟
29-12-2008