منذ انفجر الوضع فيما بين روسيا وجورجيا انتقل اهتمام المجتمع الدولي من فوق الأرض إلى تحت الأرض حيث النفط والغاز. الهجوم الروسي الكاسح طرح بوضوح مستقبل الدور الروسي في أوروبا وآسيا، فموسكو ليست على استعداد للتخلي عن سيطرتها على بحر قزوين الغني بالنفط، والمقصود هنا ليست جورجيا التي لا تحتوي على أي مخزون استراتيجي، بل إنها (أنابيب السلام حسب المسمى الأميركي لها عندما بنيت في التسعينيات) خطوط النفط التي تمر بالأراضي الجورجية لنقل نفط قزوين الى أسواق الغرب. هذه الخطوط تمتد من باكو أذربيجان إلى تبليسي في جورجيا وتصب في ميناء جيهان على سواحل المتوسط التركية وتنقل يوميا مليون برميل من النفط الفائق الجودة. هذه الأنابيب هدفت إلى اتمام الحصار على الدب الروسي وإنهاء دوره كليا في بحر قزوين وتركه في حالة موت سريري في انتظار إعلان موته النهائي، إلا أن الروس فهموا الرسالة واستخدموا أوسيتيا التي هي عبارة عن سلسلة متقطعة من القرى الجبلية لا يتجاوز عدد سكانها السبعين ألفا كقاعدة هجوم لإفشال حصارها وتثبيت دورها في القوقاز. من جهة أخرى يبدو أن الروس يراهنون على التباينات الأوروبية من ناحية رفض الهجوم الروسي على جورجيا. فردود الفعل الغربية كانت خجولة حيث رغب بعض الزعماء الغربيين في معاقبة روسيا بطردها من مجموعة الثمانية الصناعية أو عرقلة عضويتها في منظمة التجارة العالمية، إلا أن شيئا من ذلك لم يحصل لأن أوروبا تعتمد اعتمادا كبيرا على إمدادات الغاز والنفط الروسيين، وموسكو تعلم ذلك علم اليقين. في المقابل يعلم الروس أن الأميركيين سيحتاجون إلى مساعدتهم في مجال منع الانتشار النووي بشكل عام وفي معالجة الملف النووي الإيراني بشكل خاص. الصراع في منطقة القوقاز ليس بجديد، حيث تكمن أهمية تلك المنطقه في أنها تشكل حاجزا جبليا بين أوروبا وآسيا، وهي كانت تاريخيا أرض صراع في ما بين ثلاثة من أكبر الامبراطوريات، وهي العثمانية والفارسية والروسية. هل أيقظت روسيا حروب القوقاز ثانية، خصوصا أنها غير مستعدة للاستسلام بسهولة كما يبدو، فلقد أنذرت بولونيا وأوكرانيا بجعلهما هدفين لصواريخها الاستراتيجية، وألحقت شبه هزيمة بالأميركيين في جورجيا، وأهانوا الرئيس الجورجي باجتياح أرضه وهي تملك خطة طموحة بتطوير أسطولها البحري وقدراتها القتالية البحرية حيث قررت بناء تسع حاملات طائرات بحرية. لقد قررت روسيا الخروج من الاحباط الذي وقعت فيه خلال السنوات الأخيرة إزاء ما اعتبرته محاولات الغرب إيجاد موطئ قدم على تخومها عبر لعب دور في الثورة الوردية التي شهدتها جورجيا عام 2003 والثورة البرتقالية الأوكرانية عام 2004، واللتين أدتا إلى الإتيان بحكومتين مواليتين للغرب، ومما زاد من غضب روسيا تلك الوعود الغربية لأوكرانيا وجورجيا بضمهما إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) فطفح الكيل الروسي ووجه الروس رسالة واضحة للأميركان جورجيا ستبقى داخل دائرة نفوذ موسكو. من الناحية الإقليمية الشرق أوسطية يبدو أن سورية قد قررت الاستفادة من الأزمة الروسية الجورجية ودخلت على خط اللعبة مؤيدة روسيا بقوة لتؤمن مصادر بديلة عن السلاح الإيراني، خصوصا أن الكلام يدور عن استياء إيراني من سورية منذ اغتيال مغنية وإعلان سورية عن بدء مفاوضات غير مباشرة بينها وبين إسرائيل. ومن ناحية أخرى ترغب روسيا بهز العصا لإسرائيل التي تبين أن لها دورا كبيرا في تسليح الجيش الجورجي، فوجهت روسيا رسائل عديدة لإسرائيل وكان أبرزها الإعلان مباشرة على لسان نائب رئيس الأركان الروسي الجنرال أناتولي نوغوفشتين أن إسرائيل ساعدت أعداء روسيا، وهذا يفسر وكأن ذلك يعطي روسيا حق المعاملة بالمثل. الرسالة الثانية كانت إسقاط طائرة إسرائيلية من دون طيار لافهام إسرائيل أن روسيا على استعداد لإسقاط الحظر عن إمداد سورية بصواريخ دفاعية قادرة على اسقاط أي طائرة إسرائيلية. قبل عقد ونصف من الزمن كانت روسيا دولة فقيرة وضعيفة قد خسرت للتو امبراطوريتها وتعتمد على فتات الموائد الغربية، أما اليوم وبفضل عائدات النفط والغاز الهائلة تشعر روسيا بالقدرة على استعراض عضلاتها وإعادة نفوذها المفقود والدفاع عن مصالحها مباشرة.* كاتب لبناني
مقالات
ماذا وراء اعتراف موسكو باستقلال أبخازيا و أوسيتيا؟
01-09-2008