يبدو أن إيران وتركيا محكومتان بالتنافس على الأدوار الإقليمية ليس في الشرق الأوسط فحسب بل في القوقاز أيضاً، وهنا يكتسب تحليل هذا التنافس أبعاداً مهمة من المنظور العربي، لأنه يلقي الضوء على طرائق وتكتيكات إدارة الصراع لكل منهما فضلاً عن متابعة نمط التحالفات التي يعقدها كل طرف بالإضافة إلى قياس مستوى المهارات والقدرات، وهي أمور يجب أن تهم القارئ العربي لاستخلاص الدروس والعبر.

يتشابه التنافس بين إيران وتركيا في المنطقتين بأنه لا يتخذ أشكالاً عسكرية مباشرة؛ إنما يدور على بناء التحالفات الإقليمية ويمتد عبرها إلى تمديد الحضور الإقليمي وتعزيزه، ويتشابه التنافس بين طهران وأنقرة على القوقاز مع التنافس بينهما على الشرق الأوسط من جانب إضافي هو أن هذا الصراع يدور في ظل مشاركة قوة أكبر منهما على رسم السياسات والأدوار هي أميركا في حالة الشرق الأوسط، وروسيا في حالة القوقاز.

Ad

يطلق مصطلح القوقاز على تلك المنطقة الجغرافية الواقعة على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، وتنقسم منطقة القوقاز إلى قسمين جغرافيين بمدلولين سياسيين مختلفين هما القوقاز الشمالي ويقع بكامله داخل أراضي روسيا الاتحادية، والقوقاز الجنوبي الذي يضم ثلاث دول مستقلة هي جورجيا وأرمينيا وأذربيجان. يضم الجزء الشمالي من القوقاز جمهوريات الحكم الذاتي المنضوية في الاتحاد الروسي وهي: الشيشان، وإنغوشيتيا، وداغستان، وأديغة، وقباردينا بلقاريا، وقره شاي شركسيا، وأوسيتيا الشمالية، فضلاً عن الأراضي التابعة لروسيا في كراسنودار قراي، وستافروبول قراي. وإذ حسمت روسيا الصراع على القوقاز الشمالي منذ زمن على الرغم من القلاقل التي تمور بداخله، فإن الصراع على القوقاز الشمالي يظل منحصراً بين روسيا والأطراف المحلية هناك دون تدخل مباشر من أي من إيران أو تركيا، وبالمقابل يدور تنافس إقليمي حاد بين القوى الإقليمية الثلاث روسيا وتركيا وإيران على القوقاز الجنوبي، منذ استقلال جمهورياته الثلاث إثر تفكك الاتحاد السوفييتي السابق.

ومع صعود الدور التركي في العام الماضي تحديداً وزيارة الرئيس الأميركي أوباما الأخيرة إلى تركيا وإيكالها أدوارا إقليمية متنوعة تحت الغطاء الأميركي (راجع مقالنا السابق هنا)، تفتح أنقره نوافذ جديدة للحركة أمام تحالفاتها في القوقاز. وآية ذلك أن تركيا تخوض مفاوضات مع أرمينيا لتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وفتح الحدود بينهما، وبما يسمح لتركيا بالوصول براً إلى أذربيجان وعبرها إلى آسيا الوسطى، ولأرمينيا بالمقابل أن تمدد علاقاتها مع أوروبا باعتبار أن تركيا هي العائق الجغرافي لذلك. كما أن خط «أنابيب نابوكو» المفترض أن ينقل الغاز الطبيعي من بحر قزوين إلى تركيا ومنها إلى الاتحاد الأوروبي يمكن أن يمر عبر أرمينيا، فتحصل بالتالي على مزايا استراتيجية واقتصادية تساعد على إقالة اقتصادها من عثراته وإفلاسه المزمن.

إلى هنا تقول لغة المصالح إن تغيير أرمينيا تحالفاتها يظل احتمالاً قائماً، ولكن هناك عوائق عديدة تحول دون تنويع أرمينيا تحالفاتها، أول هذه الأسباب يحمل طابعاً تاريخياً بسبب «مذابح الأرمن» التي جرت عام 1915، ففي حين تبدي تركيا الأسف للضحايا يصر الأرمن على تسمية ذلك «المذابح الأرمينية» وهو ما لا تريد تركيا الاعتراف به. وتتمثل المعضلة الأخرى في إقليم قره باغ الذي تحتله أرمينيا من أذربيجان، إذ إن الروابط اللغوية والعرقية والثقافية التي تجمع أنقره وباكو تجعل تطبيع العلاقات بين أنقره ويريفان أمراً صعباً من دون تسوية مشكلة الإقليم.

تعرف موسكو من ناحيتها أن مرور خط «أنابيب نابوكو» من أذربيجان عبر أرمينيا وصولاً إلى تركيا سيعني أن ورقة فائقة الأهمية قد طارت من يدها، وهي ورقة التحكم بإمدادات الطاقة إلى أوروبا، وبالتالي فإن روسيا حرصت على متابعة المفاوضات التركية-الأرمينية عن كثب، لأن المحتوى الاستراتيجي لأي اتفاق بينهما سيكون على مرور خط الأنابيب المذكور وليس لافتتاح السفارات بمراسم بروتوكولية.

على الجهة المقابلة تمثل أقصى ما فعلته إيران حتى الآن في إمداد أرمينيا بموارد رخيصة للطاقة بهدف شراء التحالف معها في مواجهة أذربيجان التي تطالب بشمال غرب إيران باعتباره «أذربيجان الجنوبية»، وهو ما يجعل الهوة بينها وبين إيران عصية على التجسير.

ترى أذربيجان أن حليفتها تركيا قد باعتها للأرمن، إذ لم تشترط عودة إقليم قره باغ إلى أذربيجان في حزمة التفاوض بين الطرفين، ولذلك فقد انتهزت موسكو الفرصة ودعت رئيس أذربيجان إلهام علييف للتباحث معها، فما كان من رئيس الوزراء التركي سوى أن يطلب الانضمام لهذا اللقاء، وهو ما سيعيد الأوراق مرة أخرى إلى روسيا لتتحكم بالإيقاع. بالتوازي مع ذلك زار الرئيس الأرميني سيرج سركيسيان إيران على خلفية تغير الإيقاع المتحكم بالتوازنات في القوقاز، ومحاولة أرمينيا تثبيت تحالفاتها القائمة مع إيران في الوقت الذي تخوض فيه مفاوضات مع غريمتها تركيا.

ومن الطبيعي ألا تريد طهران التضحية بعلاقاتها الاستراتيجية مع موسكو إرضاء لأرمينيا على رغم أهميتها لإيران، ولذلك فلا يتوقع أن تنجح زيارة الرئيس الأرميني إلى إيران.

الدروس المستفادة من الصراع الدائر بين إيران وتركيا وروسيا على القوقاز مفادها أولاً أن التحالفات تنعقد وتنفرط على أساس المصالح الوطنية وليس غيرها، وثانياً أن الخيال السياسي للقوى الإقليمية الثلاث يتصارع عبر تنويع التحالفات وخلق مشتركات جديدة اقتصادية واستراتيجية، ويقول الدرس الثالث إن موازين القوى في القوقاز حالياً تشير إلى روسيا أولاً وتليها تركيا ثانياً ثم إيران ثالثاً، ومفاد الدرس الأخير أن التحول في التراتبية الإقليمية لا يجري عبر تحول انقلابي في التوازنات بين ليلة وضحاها، بل عبر صيرورة معقدة وطويلة نسبياً تحشد فيها كل الإمكانات الاقتصادية والاستراتيجية تحت تصرف عقل سياسي واقعي... طموح وصارم في آنٍ معاً.

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية  وا لاستراتيجية - القاهرة

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء