تبدو صورة مصر لمن ينظر إلى أوضاعها الداخلية وفاعليتها في محيطها الإقليمي شديدة البؤس تختصرها لاءات ثلاث محبطة؛ لا نموذج، لا دور، لا قيادة. ففي حين تطورت دول عربية وشرق أوسطية حولنا وصاغت نماذج مختلفة للتقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، تراجعت مصر على كل الصعد وأضحت أقرب إلى رجل الشرق الأوسط المريض الذي يعاني أزمات عاصفة لا نهاية لها.

أين نحن من التجربة التركية ونجاحها في الجمع بين تنمية اقتصادية مستدامة وتحول ديمقراطي وإسلام سياسي معتدل أو من إنجاز الإمارات وقطر لتحديث اقتصادي واجتماعي بمعدلات سريعة دون إخلال باستقرار المجتمع ورفاهيته؟ بل أين نحن من تمكن تونس على فقر مواردها وقمعية وفساد نظام حكمها من القضاء على الأمية وخلق طبقة وسطى متماسكة أو من إحداث المغرب نقلات نوعية حقيقية في مجال حقوق الإنسان وتمكين المرأة؟

Ad

نحن مجتمع يعيش 30% من مواطنيه تحت خط الفقر، وتتسع به الفجوة بين الأغنياء ومحدودي الدخل بصورة مرضية، وتُسحل طبقته الوسطى على وقع اختلالات اقتصادية كبرى. نحن بلد حالة طوارئه لا تنتهي، وحكومة ترفع شعارات الليبرالية والمواطنة والإصلاح وتنقلب عليها جميعاً المرة تلو الأخرى من دون مواربة، ونخبة مفتقدة للخيال والرؤية وموظفة لطاقتها في الإدارة الأمنية للحياة السياسية وفي فرض سيناريو توريث مرفوض شعبياً والترويج له دولياً، وأبواق إعلام رسمي تدنت إلى الحد الذي سوغ لرئيس تحرير من كانت يوماً جريدة العرب الأولى أن يربط ميلاد الوطن بيوم ميلاد الرئيس.

مصر اليوم لا نموذج إيجابيا يشعه واقعها ويتمثله الآخرون بها، فلا تنمية متوازنة تقودها طبقة وسطى قوية ولا عدالة اجتماعية تسعى الدولة نحو تأسيسها ولا تحول ديمقراطيا تديره نخبة متنورة تدرك استحالة القمع إلى ما لا نهاية وتقتنع بحتمية اشراك القوى الأخرى في السلطة... لا شيء على الإطلاق.

مصر كذلك ينحسر دورها الإقليمي وتتآكل فاعلية سياستها الخارجية بصورة مؤلمة، والأمر هنا يرتبط بغياب مصر النموذج ويتجاوزه لجهة عجز النخبة عن صياغة تصور محدد المعالم لسياسة نشيطة ولأدوات تنفيذها بكفاءة. نعم مصر موجودة في الساحة الفلسطينية وفي لبنان ولها حضور في السودان والعراق وتسعى مع دول أخرى إلى موازنة امتداد النفوذ الإيراني، إلا أنها في الحالات جميعاً لم تعد اللاعب المؤثر القادر على تغيير المعادلة أو حسم الصراع. الحضور المصري الإقليمي شديد الرمادية لا لون واضح له، تندفع القاهرة باتجاهات مختلفة من دون وجهة استراتيجية ومن ثم من دون حصيلة حقيقية. تتأزم علاقتها بحليفتها العظمى فلا تعيد التفكير ولا تبحث عن بدائل، بل تتحايل على الأزمة وتنتظر رحيل من تراه خطأ مسببها الوحيد. تنسق مع أطراف عربية صديقة، فتزايد عليها وتختصرها في رقم إضافي في حلف للمعتدلين تقوده.

ثم ترتب لاء النموذج ولاء الدور لاءً ثالثةً هي بلا شك مصدر حسرة وحزن أجيال المصريين التي عاصرت الفورة الناصرية أو واقعية السادات الجريئة أو مازالت تجتر ذكريات أحداثهما، لاء القيادة. دعونا من احتفاليات الريادة المصرية وبقايا خطاب مركزية أم الدنيا، فكلاهما لم يعد مقنعاً سوى لمروجيهما الحكوميين.

الحقيقة المرة هي أن مصر بفقدانها النموذج والدور لم تعد مؤهلة لممارسة القيادة بل لم يعد أحد خارجها ينتظرها منها.

* كبير باحثين بمؤسسة كارنيغي - واشنطن