عرف التاريخ صعوداً لقوى كونية كبرى تظهر في بقعة جغرافية بعينها قبل أن تتوسع في جوارها الجغرافي لتعبر البحار والقارات حتى تمدد سيطرتها إلى أقصى حيز ممكن؛ وهو مثال تكرر تاريخياً منذ عصر الإمبراطورية الرومانية مروراً بالإمبراطوريتين الفرنسية والإنكليزية وصولاً إلى الولايات المتحدة الأميركية في عصرنا الراهن. ومثلما عرف التاريخ صعود الأمم فقد عرف هبوطها أيضاً، وهكذا ينشغل العلماء من قديم الأزل باكتشاف عوامل صعود وهبوط القوى الكبرى وتحديد صيرورتها التاريخية، وهو أمر لم يتم بعد على الرغم من أعمال فكرية رائعة خاضت في بركة الموضوع ببراعة، ولكنها بسبب عمق الموضوع وتشعبه لم تصل إلى استنتاجات نهائية بصدد صعود وهبوط القوى الكبرى. ومن هذه الأعمال الفكرية الراقية أود هنا أن ألفت الانتباه إلى كتاب باللغة الألمانية بعنوان: «الإمبراطوريات»: منطق السيطرة العالمية، ومؤلف الكتاب البروفيسور هيرفريد مونكلر أستاذ العلوم السياسية في جامعة هومبولدت البرلينية، وواحد من أهم ممثلي مدرسة العلوم السياسية الألمانية التي تمتاز بأنها تدمج دوماً العلوم السياسية بمعارف اجتماعية أخرى ولا تبقيها علماً نظرياً جامداً. اشتهر المؤلف هيرفريد مونكلر بتطويره الكبير والعميق لنظريات الحرب عبر مؤلفاته اللامعة: «العنف والنظام» الصادر عام 1993 و«الحروب الجديدة» الصادر عام 2002 و«حرب الخليج» الصادر عام 2003، والآن كتابه «الإمبراطوريات» الصادر عام 2006. يقع الكتاب القيم والممتاز في حوالي 331 صفحة ويحتوي على خرائط تاريخية متنوعة تصور الامتداد الجغرافي للإمبراطوريات التي عرفتها الإنسانية عبر التاريخ، وهو -حتى لمجرد وجود هذه الخرائط- كتاب يستحق الاقتناء والاحتفاء في آنٍ معاً. ينشغل الفصل الأول للكتاب بتعريف الإمبراطورية حسبما وردت في مدارس العلوم السياسية المختلفة، أما الفصل الثاني فينشغل بالتفرقة الضرورية والواجبة بين ثلاثة مصطلحات تبدو مترادفة لكثيرين وهي ليست كذلك في الواقع، بل يستطيع القارئ بعد مطالعة الكتاب أن يفرق بينها بوضوح، وهذه المصطلحات الثلاثة هي: «الإمبراطورية» و«الإمبريالية» و«السيطرة». ويضرب المؤلف الأمثال بتجارب إمبراطوريات سابقة عرفها التاريخ ليثبت بها ما يذهب إليه، وليوضح الفارق بين المصطلحات المترادفة الثلاثة.ينطلق الكتاب بعد الفصلين الأول والثاني لاستكشاف الممالك البحرية عبر التاريخ واقتصاداتها المعولمة، تلك التي تمكن حكام هذه الإمبراطورية من السيطرة الإمبراطورية، ويتناول الفصل الرابع خصائص وواجبات النظام الإمبراطوري، أي ما يسميه المؤلف الحدود بين المدنية والبربرية، في حين يهتم الفصل الخامس بمسألة سقوط الإمبراطوريات والعوامل الحاكمة لهذا السقوط، في حين يتناول الفصل السادس والأخير العودة المفاجئة للإمبراطورية في عصر ما بعد الإمبريالية ليخرج منها باستنتاجاته الخاصة. تكتشف بعد قراءة الكتاب أن الإنسانية عرفت دوماً إمبراطوريات قارية وكونية متعاقبة، تصعد وتهبط وفقاً لقوانين وصيرورات غير معروفة تماماً وإن كانت ملامحها ومؤشراتها تبدو واضحة للعيان قبل سقوطها. بمعنى آخر عرف العالم دوماً صعود إمبراطوريات وهبوط أخرى في تعاقب يشبه تعاقب الليل والنهار، وهي نتيجة تبدو طبيعية بعد قراءة هذا الكتاب. يقدم الكتاب إجابات مقنعة جداً لأسئلة مثل: كيف تميز الإمبراطوريات نفسها؟ وما الأخطار التي يتسبب بها النظام الإمبريالي؟ وما الفرص التي تقدمها الإمبراطوريات؟أصبحت الإجابة عن هذه الأسئلة ملحة وضرورية ليس للأغراض التاريخية فحسب، ولكن أيضاً لفهم جذور النظام الدولي الراهن. تحتل الولايات المتحدة الأميركية في عالمنا المعاصر مكاناً خاصاً، يراه المعارضون لهيمنتها أمراً مهدداً للسلام العالمي، مثل مؤلف الكتاب نفسه. المثير الآن هو أن بعض مظاهر التفكك بدأت في الظهور على الإمبراطورية الأميركية، ولكن دون وجود بديل إمبراطوري لها، ربما للمرة الأولى في تاريخ البشرية. لمس المؤلف هذه النقطة من بعيد ولكنه لم يركز عليها، لأن ملامح الوهن أخذت تبدو على الإمبراطورية الأميركية في السنة الأخيرة من حكم الرئيس السابق جورج دبليو بوش، ولم تكن ظاهرة بهذا القدر من الوضوح عند تأليف الكتاب. يتساءل المؤلف: هل يحدد الساسة في واشنطن القواعد العامة التي يتعين على بقية العالم أن يعترف بها؟ أم هل هناك صيرورات للسيطرة العالمية هي التي تفرض نفسها حتى على هؤلاء الساسة في واشنطن؟ وفي حين يبقى مونكلر رده موارباً على السؤالين السابقين فإنه يجيب بوضوح في هذا الكتاب الرائع عن أسئلة محورية مثل: كيف تعمل الإمبراطورية؟ وما أنواع الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ في السابق؟إنه بالفعل عمل ممتاز يغوص في أعماق التاريخ الإنساني ليحلل بالكثير من اللمعان والحذق أحد أهم موضوعات السياسة الدولية الراهنة... إنه كتاب جدير بترجمته إلى اللغة العربية، لأنه سيسد فراغاً معرفياً ونظرياً في مجاله، وهنا أضع القضية بين أيدي أصحاب الرأي والقرار لترجمته وتعميم فائدته على القراء العرب.* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة
مقالات
الإمبراطوريات : منطق السيطرة العالمية
12-03-2009