يقع مبنى السفارة الأميركية في طهران في شارع طالقاني وسط العاصمة الإيرانية، كان للشارع الذي يقع فيه مبنى السفارة تاريخ، فقد أطلق عليه قبل انتصار الثورة «تخت طاووس»، أي عرش الطاووس، وهو رمز العائلة البهلوية التي حكمت إيران قبل انتصار ثورتها، وفي في منتصف القرن الماضي عرف الشارع أيضاً باسم «فرانكلين روزفلت»، الرئيس الأميركي الأسبق، انعكاساً لعلاقات حميمة ميزت واشنطن وطهران منذ نهاية الحرب العالمية الثانية واستمرت حتى انتصار الثورة. الثلوج تغطي الشوارع وقمة جبال البرز، التي تحاصر طهران وتمتد سلسلتها بطول آلاف الكيلومترات على شكل قوس بدءاً من تركيا ومرورا بإيران وصولاً إلى أفغانستان. كانت الثورة الإيرانية قد انتصرت، فهرب الشاه من إيران وعاد الإمام الخميني إلى بلاده من منفاه، وتم تحييد الجيش وشكلت الحكومة الانتقالية لإجراء الاستفتاء على الجمهورية. في هذه اللحظة التاريخية من عمر الثورة الإيرانية كانت خطوط الصراع السياسي قد تشابكت وامتدت لتطاول كل قطاعات الداخل، في حين ظلت مفتوحة مع الخارج.

وجدت العملية السياسية وعملية التغيير الثوري نفساهما في أزمة مستحكمة كان عنوانها المؤسسي الصراع بين مجلس الثورة الموالي للإمام الخميني والحكومة الانتقالية بقيادة مهدي بازركان، أما العنوان الأساسي للحالة السياسية الإيرانية وقتها فكان الصراع الدائر بين أنصار نظرية «ولاية الفقيه» بقيادة الإمام الخميني من ناحية، وباقي التيارات السياسية الإيرانية المعارضة للنظرية، على اختلاف توجهاتها ومشاربها الفكرية والعقائدية، من ناحية أخرى.

Ad

في الرابع من نوفمبر (تشرين ثاني) من عام 1979 تجمع مئات من الطلبة الإيرانيين أمام أسوار السفارة الأميركية في طهران مرددين الهتافات المميزة وقتذاك للثورة الإيرانية، والتي طالما ألهبت حماس الجماهير سواء في إيران أو خارجها. تصاعدت الأصوات: «الله أكبر»... «مرك بر آمريكا»، التي تعني الموت لأميركا، وظن القاطنون في الشارع وأصحاب المحال التجارية أنها مظاهرة مألوفة من التي تشهدها العاصمة الإيرانية كل يوم منذ انتصار الثورة، ولكن الطلبة لم يكتفوا بالهتاف أمام مبنى السفارة فقط، بل قطعوا السلاسل الحديدية التي تؤمن البوابات، وكسروا مغاليقها واندفعوا إلى داخل السفارة. ولم يعد الطلبة داخل السفارة يرددون الشعارات فقط، بل وضعوا العاملين فيها والبالغ عددهم واحد وستون شخصاً تحت سيطرتهم. ولم يطل الأمر كثيراً حتى قطع الطلبة السائرون على طريق الإمام الشك باليقين في مقاصد حركتهم، إذ أصدروا جرياً على العادة الشهيرة للسياسة في بلدان الشرق الإسلامي بيانهم رقم واحد! يروي كتاب «صراع في طهران» الذي ألفته السيدة معصومة ابتكار تفاصيل مثيرة عن عملية احتلال السفارة، وهو بذلك يلقي الضوء على قيادات الطلبة الإيرانيين مختطفي السفارة، وللمفارقة فإن المختطفين سابقاً هم زعماء الحركة الإصلاحية لاحقاً والذين طالبوا ومازالوا بتحسين العلاقات مع واشنطن وهم على سبيل المثال: إبراهيم أصغر زاده، محمد رضا خاتمي، سعيد حجاريان، معصومة ابتكار، حبيب الله بيطرف، عباس عبدي، محسن ميردامادي.

وبتقليب النظر في هذه الكوكبة من السياسيين نلاحظ أن إبراهيم أصغر زاده هو من قيادات حزب التضامن الإسلامي الإصلاحي، أما محمد رضا خاتمي فهو شقيق الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي والزعيم التاريخي لجبهة المشاركة الإصلاحية، في حين أن سعيد حجاريان عمل في وزارة الاستخبارات أثناء فترة رئاسة خاتمي الأولى وتعرض لمحاولة اغتيال بعد أن صار الدماغ الاستراتيجي في معسكر الإصلاحيين، في حين أن معصومة ابتكار هي نائبة الرئيس خاتمي، أما حبيب الله بيطرف فهو وزير الطاقة في حكومة خاتمي الإصلاحية.

عدت بالذاكرة إلى ذلك اللقاء الذي جمعني بالدكتور محمد رضا خاتمي في مكتبه بالبرلمان الإيراني قبل أكثر من أربعة أعوام، وكان من ضمن ما سألت عن تقييمه لعملية احتلال السفارة. يقول الدكتور محمد رضا خاتمي إن عملية الاحتلال كانت عملاً ثورياً تقدمياً بمعايير ذلك الزمان، مثلما هو الإصلاح والحركة الإصلاحية ثوريان وتقدميان بمعاييرنا الحالية!

جرت مياه كثيرة في أنهار قارون وجيحون والميسيسبي، وعادت المصالح لتلعب لعبتها وتحتم على الرئيس الأميركي الجديد باراك أوباما أن يفتح حواراً مع إيران لحل القضايا العالقة في المنطقة، وفي هذه اللحظات التاريخية للعلاقات الإيرانية-الأميركية يبدو أن الدروس المستفادة من عملية احتلال السفارة الأميركية في طهران قد أصبحت حاضرة في أذهان الطرفين. فلا واشنطن بمقدورها تجاهل الحضور الإيراني في المنطقة بعد ثلاثة عقود من انقطاع العلاقات، ولا طهران في وارد التفريط بفرصتها بإعادة العلاقات مع القطب الدولي الأوحد، باعتبارها الضامنة لدور إقليمي إيراني في المنطقة. تبدو المفاوضات قادمة في أفق المستقبل القريب، ولسان حال طهران وواشنطن معاً يقول: فلتتراجع الإيديولوجيا وتتقدم المصالح!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة