على الرغم من الدور المهم الذي تضطلع به الفضائيات العربية في التغطية اليومية لوقائع الحرب الإسرائيلية على غزة ومشاهد دمارها المريعة، فإن تعاطي معظم هذه الفضائيات مع حرب غزة اتسم حتى اللحظة بتسييس بيّن... رتّبَ، وإن اختلفت مضامينه، سقطات إعلامية غير مقبولة.

فبعضها مدفوعٌ بالأجندة السياسية لقوى إقليمية توصف «بالاعتدال» تنظر إلى حركة «حماس» بريبة وترى في إمكان إضعافها كنتيجة للعمليات العسكرية الإسرائيلية فرصة سانحة للخصم من رصيد قوى «المقاومة-الممانعة» في الشرق الأوسط الموصوفة بالتشدد، عمد إلى التقليل من أهمية أحداث غزة وإلقاء لائمتها بجانب إدانة الفعل الإسرائيلي على «حماس» وخياراتها الاستراتيجية الرافضة للتسوية السلمية. في حين نزع بعضها الآخر من الفضائيات القريبة من الممانعين إلى إدارة حملة اتهامية ضد قوى الاعتدال، وعلى رأسها مصر بتحميلها مسؤولية الحرب الإسرائيلية على غزة بادعاء تواطئها مع تل أبيب ومشاركتها في حصار الفلسطينيين، ومن ثم صناعة صورة لـ«حماس» ومن ورائها المدنيون الفلسطينيون كضحية مؤامرة إقليمية عربية في الصميم، ومصرية بامتياز ترغب في تصفية المقاومة وتسليم المنطقة لإسرائيل وللولايات المتحدة.

Ad

وفي السياقين تم توظيف العديد من الاستراتيجيات الإعلامية اللافتة التي طالت المشاهد الملتقطة والمفردات اللغوية المستخدمة والقضايا محل النقاش، وكذلك من تم استدعاؤه من المحللين والخبراء، فلدى بعض فضائيات الاعتدال لم يرقَ ضحايا الفلسطينيين في غزة إلى مرتبة الشهداء، بل هم «قتلى المواجهات بين إسرائيل وحماس» والعمليات الإسرائيلية المتوالية لا تستأهل التوصيف كحرب على القطاع، إنما يشار إليها «كورطة غزة». بينما سعت فضائيات الممانعة إلى التركيز قبل كل شيء على الصور المؤثرة للضحايا المدنيين واعتمدت لغة بالغة العاطفية غابت عنها المعلوماتية واتسمت بطابع تهييجي واضح، وبطبيعة الحال انعكس نفس الانقسام ونفس التناول القاصر على القضايا المعالجة والمحللين المستدعيين، فمن اهتمام بتقديم شرح لمسؤولية «حماس» عن «ورطة غزة» على ألسنة قريبين من السلطة الفلسطينية في رام الله وممثلين لقوى الاعتدال غيب بقية عناصر المأساة إلى انشغال مستمر قارب حد الهوس «بالتواطؤ العربي» مع إسرائيل في حربها استُدعي للتعبير عنه رموز منتمية إما إلى التيارات الإسلامية واليسار وإما وثيقة الصلة بعواصم الممانعة في الشرق الأوسط.

إلا أن التباين في تقييم الدور المصري إيجاباً وسلباً مثل المحك الرئيسي لصياغة وجهتي النظر المتقابلتين في الفضائيات العربية. دافعت فضائيات الاعتدال عن تمسك مصر بإغلاق المعابر بينها وبين قطاع غزة وفقا لالتزاماتها الدولية، وفتحها فقط أمام المساعدات الإنسانية ولعلاج الجرحى الفلسطينيين، وفاتها انتقاد أن الموقف المصري الرسمي كان بمقدوره الاحتجاج على الحرب الإسرائيلية على غزة بخطوات دبلوماسية تصعيدية من قبيل سحب السفير المصري من تل أبيب أو إبلاغ السفير الإسرائيلي في القاهرة بأن وجوده غير مرغوب به إلى حين أو التحرك بسرعة مع عواصم إقليمية ودولية للضغط من أجل وقف فوري للعمليات العسكرية وغيرها من الخطوات التي بينها وبين «فتح» غير مسؤول للمعابر أو إعلان للحرب على إسرائيل مسافة شاسعة.

أما فضائيات الممانعة فأدارت، عوضاً عن توجيه نقد مشروع لقصور الدور المصري ومحدودية فاعليته، حملة فجة ضد مصر الرسمية وكأنها هي من يضرب غزة، وجاءت بالقاصي والداني للهجوم على حكومتها الحالية، بل التشكيك في دورها التاريخي المسؤول إزاء القضية الفلسطينية إلى الحد الذي دفع بعض «المحللين» شديدي السطحية إلى إعلان عريضة اتهام كريهة ضد مصر وسمتها بخيانة العرب والتخلي عن حقوقهم.

تكلف مثل هذه السقطات، التي كرست حال الانقسام بين العرب وشغلت الرأي العام باختلافات الأشقاء بدلاً من إعطاء الأولوية لتناول المذبحة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة والدعوة إلى إيقافها، فضائيات الاعتدال والممانعة الكثير من مصداقيتها المهنية، كما أنها أظهرت أن تسييس الإعلام المرئي العربي لا يقتصر على القنوات الحكومية فقط، بل يتجاوزه إلى الفضائيات التي أملنا جميعاً في أن تكون بداية تشكل محيط إعلامي عربي حر ومهني.

* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي» للسلام الدولي- واشنطن.