من الخطر جداً في هذا الوقت أن تكون جورجيا شجرة لتعليق رغباتنا عليها، لا حبّاً بموسكو، ولا كرهاً بالولايات المتحدة، ولا تعلّقاً بالهشيم.في السبعينيات تعرّفنا على السينما الجورجية للمرة الأولى، ثمّ اقتنعنا بسهولة كبيرة؛ نحن الذين كنا لا نفعل ذلك؛ بما قاله فيلليني عنها «ظاهرة غريبة وخاصة، خفيفة الفلسفة، مركّبة وفي الوقت نفسه تتمتّع ببراءة الأطفال ونقائهم». بالنسبة لنا، كان التعارف عن طريق فيلم اسمه «شجرة للرغبات»، ولطالما كانت تلمع لمحات منه في خاطري كلما جاء ذكر جيورجيا... ولم يحدث معي ذلك منذ اندلاع الأزمة الأخيرة، إلاّ أخيراً. قبل مجيء تلك السينما إلى بلادنا، لم أكن أعرف من جورجيا إلاّ أنها مسقط رأس الزعيم السوفييتي الدكتاتور الخالد ستالين، ومسقط رأس مساعده ويده اليمنى بيريا. واليد اليمنى في الأنظمة الشمولية أَمنيّة بالطبع، حيث ارتفع بيريا هذا من نائب رئيس المؤسسة الأمنية التي لا أذكر أحرفها الأولى الآن، إلى رئيسها، إلى وزير للداخلية، إلى نائب لرئيس الوزراء وقت وفاة ستالين. آنذاك حاول أن يقود اتجاهاً أكثر ليبرالية بعد ستالين، لكن ذلك «الاتجاه» حاصره بسرعة وأعدمه قبل أن ينفذ السهم ويحصل المحذور ويمسك بكلّ شيء حتى موته الطبيعي. ويصادف في الشهر الفائت أن تكون جورجيا في مركز الاهتمام، قبل انعقاد مؤتمر الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة بالطبع. فقد استفزت حكومة ساكاشفيلي الروس بإجراء غبي منقول بالتأثير عن الإدارة الأميركية، وكان الروس بانتظارها، فاستعرضوا دباباتهم في أوسيتيا الجنوبية، وفي أراضٍ جورجية أخرى. وبما أنه منذ اليوم الذي أعلن فيه استقلال كوسوفو، كان مسؤول روسي ما، قد قال إنه ينبغي ألاّ ننسى أن هنالك أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا يمكن أن تستقلّا، فقد أعلنت هاتان استقلالهما، واعترفت بهما روسيا.مرتجل وسطحي القول إن القوى المضادة للديمقراطية في روسيا تُبعث من جديد، كذلك هو القول إن «الروسيا» قد عادت إلى الحياة، وهذا القائل الأخير نفسه يذكر اسمها بالطريقة القيصرية، مع أنه يقصد روسيا السوفييتية، القطب العظيم الثاني الذي زال.وليس ذلك عيباً كبيراً خاصاً بنا، فالشامتون بالأميركيين كثر، لكن في عالم الكتابة والمقاهي، وليس في عالم السياسة الملموسة. وإضافة لهم هنالك من ينتظرون انتهاء مفاعيل الاستقطاب العالمي هذا خلال الأعوام المقبلة. فقد كان الانفراد الأميركي سيئ الحظ بأن حظيت به إدارة هي الأضعف كفاءة والأكثر تجاذباً منذ عقود طويلة. ذلك الانفراد الذي يغري حتى الانسان العادي بالبراغماتية، أغرى تلك الإدارة بالإيديولوجيا، أو ما يعادلها. من الجهة المقابلة، وبالطريقة نفسها، جرت إهانة روسيا بما لا تستحقه، ولم تُراع مصالحها القومية بالحجم المكافئ لحجمها الحالي، لا السابق كما يرغب بعض الروس، وذلك طريق يعرف الجميع أنه محفوف بالمخاطر في لحظة ما من لحظات التفاعلات السياسية، التي لم تعد تنطبق عليها لا قواعد اللعب القديمة، ولا أسس الاستنباط السابقة أيضاً.وفي جورجيا هنالك شيء آخر، هو جورجيا نفسها أولاً، التي تعود مثل غيرها لتصبح موضوع شدّ وجذب لقوى العالم، وللمواقف والكتابات التي تمرّ على مصلحة ذلك البلد وشعبه مروراً عابراً.جورجيا مازالت دولة مستقلة موحدة حسب القانون الدولي والشرعية الدولية، ولذلك احترامه ومستقبله. والضحيتان الأصعب هما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا نفساهما، ليس لأن قضيتهما ليست عادلة، بل لأنها كذلك خصوصاً. فالشرعية الدولية سوف تضمن حقوق الاقليمين بطريقة علاقتهما بجورجيا ودرجتها، عاجلاً أم آجلاً. لكن طريق الدم وتلوّث قضيتهما برائحة نفط القوقاز أو الصراع على القمة أو الظمأ الروسي إلى المياه الدافئة شيء آخر. أمام هذا الاختبار البسيط، عاد إلى الذاكرة بقوة ذلك الاندفاع –أو الانخلاع- لحظة اجتياح صدام للكويت، الذي شعر فيه بعض العرب الحالمين، وهم كثر، بأن بسمارك العربي قد ظهر، وأن مقبرة الإمبريالية قد فتحت أبوابها. الآن بوتين هو الفارس العربي، ويكاد حلمنا أن يصل القطب، استقطاباً.وللحقيقة ، أو للمفارقة، أن هذا الموقف لا يعود إلى الشعور القومي وحده، بل إلى موقف اجتماعي ويساري أيضاً. يرى في انتهاء وضعية القطب الواحد تحسّناً في وضعية الفئات الأكثر حاجة في العالم، أو الأمم الأشد فقراً. ومع أنني لست متأكداً من علمية الربط بين المسألتين، فلا بأس، لكننا بانتظار نهوض الصين والهند والبرازيل... وأوروبا، وبانتظار أن تأخذ روسيا مكانها الطبيعي. لكننا لم نعد نرغب بتجربة القطب القادر على دور الشرطي، ولا بالقطبين الشرطيين، اللذين يمارسان قوّتهما علينا، ونبقى قلقين على معاركهما أو من اتفاقاتهما.ومن الخطر جداً في هذا الوقت أن تكون جورجيا شجرة لتعليق رغباتنا عليها، لا حبّاً بموسكو، ولا كرهاً بالولايات المتحدة، ولا تعلّقاً بالهشيم.* كاتب سوري
مقالات
جورجيا... شجرة للرغبات
02-09-2008