يتطلب وصم الواقعة الإسرائيلية بالشين، استلهاما للسابقة العنصرية الجنوب إفريقية (انظر مقالة الأسبوع الماضي)، ما يتجاوز الاقتصار على إيراد وفضح المظالم الناجمة عن إقامة الدولة العبرية، وهي بطبيعة الحال مظالم فادحة معلومة، فمثل ذلك، على ضروردته ولزومه، يبقى دائرا في مجال النسبيّ، لا يبارح مسبقات ذاتية، أو نظرة ذاتية المرجعية، فما قد يراه البعض مظلمة قصوى، هي المتمثلة في حرمان شعب من أرضه والحلول محله فيها، قد يراه البعض الآخر، لاسيما في الغرب وفي شطر من العالم واسع، عين العدالة، أنهت مأساة بأن أعادت شعبا، كابد التيه وأقسى الاضطهاد، إلى أرضه «التاريخية». تصبح المظالم التي حلت بالفلسطينيين من جراء ذلك ووفق النظرة تلك، نافلة لا تُلحظ، أو ثانوية الأهمية، أو نجمت عرضا عن إنجاز المشروع الصهيوني «وطنا قوميا لليهود» وعن تفعيله دولة هي الدولة العبرية، لا بعدا أصليا في ذلك المشروع وفي تلك الدولة.

Ad

يبقى الأمر، والحالة هذه، سجالا لا ينتهي بين «مدرستين» أو بين رؤيتين، نقيضين ضدّين لا يلتقيان، أو إن فَعَلا فعلى سبيل التلفيق (أقله إن نظرنا إلى المسألة من تلك الزاوية الأخلاقية التي تعنينا هنا)، شأن حل الدولتين الذي يجهد، إن حالفه النجاح وذلك مُستبعد، في إرساء مساواة ضيزى وزائفة بين حقين، واحد استوى، لفرط تاريخيته عيشا مطردا على أرض فلسطين، حقا «طبيعيا»، وثانٍ انتحل التاريخ بواسطة الايديولوجيا وتوسل طابعها الإرادوي الذي يدخل على الواقع قسرا، لإحقاق ذلك «الحق»، هذا، فضلا عن أن أحد الحقين، ذلك الفلسطيني، سيكون، في صورة التوصل إلى ذلك الحل، مجتزأً لا محالة، لا سبيل إلى بلوغه إلا بارتضاء تخل وانتقاص، وفي ذلك ما ينافي فكرة الحق أصلا.

لذلك كله، لا يمكن لمثل ذلك السجال إلا أن يبقى دائريا، يدحض بعضه بعضا، ويتعذر معه التوصل إلى إجماع على إدانة حالة التمييز والاغتصاب التي اقترفتها الصهيونية، مظلمة قصوى تستقر في الضمير الإنساني بصفتها تلك، أسوة بما حصل مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا السابقة.

ذلك أن مثل ذلك الإجماع على الإدانة لا يفي في بلوغه التوقف عند مفاعيل الاغتصاب الصهيوني وتبعاته، بل يتطلب النفاذ إلى أبعد من ذلك، إلى ما يمثل لب الفكرة الصهيونية، سعياً إلى تبيّن وإظهار تهافتها وتناقضها الأخلاقيين الكامنين في أصلها وفي منطقها الداخلي الحميم.

وأول ما يتعين سبره في هذا الصدد هو مساءلة الادعاء الأساسي والتأسيسي الذي قامت عليه الفكرة الصهيونية، واكتسبت منه مشروعيتها الأخلاقية، وهو زعمها بأنها الحل الأفضل والأمثل لمشكلة معاداة السامية، تلك التي كانت آفة أوروبية مقيمة، همجيةً تستقر في قلب الحضارة، بلغت أوجها فظاعة في السياسة القومية النازية وفي تفعيلها محرقة أودت بحياة ملايين اليهود واستوت بذلك شينا أقصى وجرما لا يُضاهى، كان له بالغ الأثر في تسويغ الواقعة الصهيونية الناشئة أصلا عن مناخ حيف أوروبي مكين مديد حيال اليهود.

غير أن المتمعن في الحل الذي اقترحته الحركة الصهيونية ثم اجترحته واقعا لحل «المسألة اليهودية» بإنشاء «وطن قومي» لبني إسرائيل، لا يلبث أن يقف على مدى تواطئه في العمق مع معاداة السامية في ما يمثل محورها وأساسها عبر تاريخها المديد، خصوصا في صيغها الحديثة. نحن لا نلمّح بذلك إلى ما تواتر من معلومات عن تعاون، ربما كان نشيطا، قام منذ ثلاثينيات القرن الماضي بين قادة الحركة الصهيونية وألمانيا النازية في سبيل تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، فمثل ذلك إن حصل، لا يعدو أن يكون من مظاهر البراغماتية التي قد تلجأ إليها الحركات السياسية في سبيل بلوغ ما تعتبره أهدافا استراتيجية، متساهلة في تحقيق ذلك مع الاعتبارات الأخلاقية. بل إن ما نعنيه تواطؤاً من طبيعة أبعد وأعمق، يتعلق بالمنطلقات والأسس الفكرية، لكل من معاداة السامية، أي معاداة اليهود كما عرفها الغرب، وللحركة الصهيونية،

فالحركة تلك تقوم على التسليم بالمبدأ الأساسي الذي قامت عليه معاداة السامية، والقائل إن اليهودي «أجنبي» ولا يمكنه أن يكون إلا كذلك، لسمة فيه جوهرية، أي ان «أجنبيته» تلك أصيلة وتكوينية، لا ينال منها لا طول الإقامة ولا المثاقفة والتطبع بطباع أهل البلد أو الانضواء في عداد أبنائه على أساس المواطنة. تلك الفكرة ترددت في الأدبيات المعادية للسامية، خصوصا في فترة ما بين الحربين العالميتين، على نحو ملحاح حتى عُدّت من المتبذلات.

والحال ان الحركة الصهيونية، إذ تبنت فكرة «الوطن القومي لليهود» وسعت في إنجازها خارج أوروبا، بدعم من دول هذه القارة فاعل نشيط، إنما أدرجت فكرة «أجنبية» اليهودي، أساسا لنظرتها ولمشروعها السياسي، بل ذهبت أبعد من ذلك بأن مكنتها الأدوات العملية والإجرائية لإنفاذها والخروج بها إلى حيز التطبيق.

وذلك ما قد يكون اللبس الأخلاقي الأساسي الذي يسم الحركة الصهيونية ويصمها: ذلك انها كانت الأداة اليهودية في تحقيق مطلب أثير لدى أعداء السامية.

* كاتب تونسي