صدر عن «دار المدى الإسلامي» كتاب «صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى» للكاتب ريتشارد سوذرن (ترجمة الدكتور رضوان السيد). يدرس سوذرن، وهو أحد كبار المتخصصين في العصور الوسطى، تطوّر الرؤى الأوروبية تجاه الإسلام ما بين القرنين العاشر والسادس عشر. يشير سوذرن إلى أن القرنين الثالث عشر والرابع عشر شهدا محاولات جادة من علماء لاهوت كبار في أوروبا لتصحيح النظرة إلى الإسلام، تمهيداً لإقامة علاقات أخرى مع المسلمين بعد انقضاء الحروب الصليبية. لكن تطورات أوروبية داخلية حالت دون ذلك، على مشارف الانقسام الكاثوليكي - البروتستانتي، والكشوف الجغرافية، وتفاقم الصراع مع العثمانيين، وبدء التوجه الأوروبي لاستعمار العالم.في تقديمه للكتاب يعتبر رضوان السيد أن سوذرن سلك في دراسته القصيرة هذه مسلكاً تطورياً، إذ يراقب في كل فصل من كتابه الأصول التاريخية والتطورات العارضة محاولاً فهم الأفكار السائدة عن الإسلام في ضوء علاقات الإسلام بأوروبا العسكرية والسياسية. فالاهتمام بالإسلام في الغرب الأوروبي كان ضئيلاً في الفترة الممتدة بين القرنين السابع والتاسع لأنه لم تكن للغرب علاقات سياسية أو تماس عسكري بالإسلام. وبيّن سوذرن عدم اهتمام المسيحيين الأسبان بالتعرف الى الإسلام على رغم سيطرته في عقر دارهم، والأمر نفسه ينطبق على الفرسان واللاهوتيين الصليبيين في المشرق أثناء الصراع الأوروبي الإسلامي. ثم جاء التماس الشديد بالإسلام في القرن الخامس عشر أثناء الغزوات العثمانية في الغرب من دون أن يؤدي ذلك إلى ازدياد الاهتمام بالتعرف الى الإسلام، بل إن أولئك الذين اهتموا بمعرفة الإسلام أو تشكيل صورة لمعاصريهم عنه كانوا غالباً من اللاهوتيين البعيدين عن ساحات الصراع أو التماس بين الإسلام والغرب.كذلك يرى السيد أن المسلمين الأوائل ثم المغول ثم العثمانيين ظهروا على مسرح التاريخ عبر القرون، وتحدوا الغرب الأوروبي، بيد أنهم لم يحدثوا تغييراً في الرؤية الأوروبية لهم، وكانت المعلومات عنهم تتراكم في الغرب، وكان التماس مع أوروبا يزداد ثقافياً سياسياً وعسكرياً. لكن ليس الظهور التاريخي، ولا التحدي العسكري أو المعلومات المتزايدة هي الحيثيات التي أحدثت التغير تجاههم في أوروبا، بل الانقسام الداخلي الأوروبي، وانعدام الأمن على المستويين الاجتماعي واللاهوتي، لذا فإن النهج التاريخي التطوري وتراكم المعلومات، لا يكفيان لتعليل تغير النظرة الأوروبية الوسيطة إلى العالم والإسلام تحديداً، فعندما كان جون ويكليف يعرض رؤية موضوعية نسبياً عن الإسلام، كان يفعل ذلك مرتكزاً الى نقدية جذرية للكاثوليكية. وهكذا كان انفساح النظرة تجاه الإسلام مرتبطاً بانهيار الوحدة الفكرية الكاثوليكية التي اتجهت إلى التفاوض مع المنشقين المسيحيين في الغرب والشرق البيزنطي. علماءيوضح سوذرن أنه من الناحية الفكرية يمكن مقارنة موقع الإسلام بالنسبة إلى أوروبا بموقع اليهودية منها، فقد كانت هناك قواسم مشتركة عقدياً بين الإسلام واليهودية، والديانتان كانتا تملكان الاعتراضات نفسها تقريباً على المسيحية، بيد أن المفكرين المسيحيين كانوا يملكون في مواجهة اليهودية كماً معقداً وواسعاً من الجدل العقدي، ثم إن تفوقهم على اليهود من الناحتين الاقتصادية والاجتماعية كان يدفعهم إلى التعامل مع المسألة اليهودية من موقع المستخف والآمن، فنقض حجج الفئات الاجتماعية السائدة كان سهلاً جداً. أما الإسلام فقد حقق نجاحات ضخمة في المجالات كافة، وتلت التراجع في تاريخ تجربته حقب من الازدهار الشامخ، والنمو المهدد. واستطاع الوقوف في وجه الحملات العسكرية الأوروبية، واحتواء موجات التبشير، وما كان بوسع أوروبا بعد قرون من الصراع النيل منه.يضيف المؤلف أن هذه الصورة القوية لانتصارات الإسلام دعمها الجانب الفكري المتفوق من حضارته، إذ بدت المسألة لأوروبا المسيحية أكثر تعقيداً، فقد قال الإسلام بالله الواحد الأحد القادر مبدع الأكوان. لكنه أنكر التثليث وتجسّد الآلهة، وطبيعة المسيح الإلهية، وهو موقف فلسفي وواضح ومعروف لدى اللاهوتيين الأوروبيين.كذلك قال الإسلام بخلود الروح، وبيوم الحساب الذي يؤجر فيه الصالح ويعاقب الطالح، واقتضى ذلك القول بضرورة العمل الصالح مثل الصدقة لدخول الجنة. لكن ماذا يمكن أن يقول الأوروبي عن دين ينكر ألوهية المسيح، وواقعة صلبه، ويعترف في الوقت نفسه بولادته من عذراء (أي بالحبل بلا دنس)، وبنبوته وأنه مرسل من الله. وقد رأى الأوروبي الوسيط أن الإسلام يقول بأن العهدين القديم والجديد موحى بهما من الله، لكنه يذكر في الوقت نفسه أن كلمة الله الأخيرة والباقية هي القرآن الذي استوعب تعاليم التوراة والإنجيل. وقد قال الإسلام كالمسيحية بالثواب والعقاب، لكنه أهان الفلسفة عندما اعتبر اللذات المادية ضمن أسمى خيرات النعيم. فرسانيعتقد المؤلف أن الصورة السلبية عن الإسلام ونبيّه لم تنشأ دفعة واحدة، بل تشكّلت عبر مراحل تاريخية، فكانت كل مرحلة تضيف معلماً على الشكل الأولي. وإن كانت القلة بين الأوروبيين التي عرفت الإسلام أصابتها الحيرة الشديدة فإن هذا يمكن فهمه وتسويغه. فقد ناقض الإسلام كل ما كان معهوداً بالنسبة إليه، وأتت على العارفين بالإسلام حقب بدا لهم من خلالها أنه يمكن لهم إهماله ودفعه باعتباره نتاجاً لوهم شرير. ويعلّق المؤلف بأن هذا التصوّر كان ليحظى باستحسان واسع لو أن الإسلام تراجع أو انكمش سياسياً وفكرياً. بيد أن هذه الرغبة الدفينة من جانب الأوروبيين لم تجد لها صدى في واقع الإسلام التاريخي آنذاك. بالإضافة إلى أن الأوروبيين عرفوا بين معتنقي الإسلام رجالاً تعودوا على تقديرهم، وكان من بين هؤلاء علماء وفلاسفة ومفكرون مثل الفارابي وابن سينا وابن رشد، وفرسان أبطال في المفهوم الأوروبي للفروسية أمثال صلاح الدين الأيوبي، وما كان سهلاً التصديق بأن هؤلاء جميعاً كانوا ضحية «وهم شرير» هو الإسلام.يرجح سوذرن بأن هذه العوامل كلها أثرت في طريقة تلقي الأوروبيين للإسلام، وجعلت ردود أفعالهم تجاهه متسمة بالحيرة والتعقيد، ناهيك عن أن الإسلام والمسيحية لم تكونا منظومتين دينيتين متناقضتين فحسب، بل مثلتا وسادتا بالإضافة إلى ذلك في وسطين ومجتمعين مختلفين تماماً، ما جعل كل تواصل بينهما عملية تكاد تكون مستحيلة، فقد ظل الغرب، طوال العصور الوسطى تقريباً وعلى امتداد رقعته الجغرافية، بلاداً زراعية يسكنها فلاحون وإقطاعيون ورهبان وكهنة بالدرجة الأولى، في الوقت الذي كانت فيه الحضارة الإسلامية تتمركز في مدن الإسلام الكبرى وبلاطاته الغنية، وطرقه التجارية الممتدة. وكانت مُثُل أوروبا الوسيطة بشكل أساسي هي الرهبنة والكهانة والهرمية الاجتماعية، فيما عرف الإسلام الوسيط المزدهر فئات بشرية مدينية متحررة، مقبلة على العمل والحياة، ومستندة إلى سواسية اجتماعية تستمتع بالنقاش والجدل في المسائل كلها، دون كهان وأديرة في البنية الأساسية للاجتماع. يؤكد سوذرن أن الفرق الأساسي بين العالمين اللاتيني والإسلام هو الفرق بين حضارة نمت وتطورت ببطء وعلى أمداد طويلة، وأخرى بلغت النضج بسرعة بالغة. ويُرجع الكاتب ذلك إلى أسلوبي الحياة المختلفين تماماً في الحضارتين. وإلى جانب البنية الاجتماعية المتمايزة في العالمين، ثمة تمايز واضح في الميراث الحضاري، فعندما تهاوت حضارة العالم القديم كان الإسلام هو الوارث الرئيس للعلم والفلسفة الإغريقيين، بينما ورث الغرب الثقافة الرومانية.فيما كان الإسلام الوسيط يفيض ازدهاراً وثراءً في المجالات كافة، كان الغرب في الحقب نفسها لا يملك غير ثقافة آباء الكنيسة والشعراء الكلاسيكيين، ومن بعدهم ثقافة مدرّسي اللاتين. كانت أعمال هؤلاء بالغة الضخامة والتنظيم، لكنها في عالم العصور الوسطى المبكرة لم تترك آثاراً ضخمة. وقد أدرك العلماء اللاتين في القرن الثاني عشر التفاوت الهائل بين ثقافة الغرب المسيحي والإسلام الوسيط، وهذا ما شكل صدمة قاسية جداً بالنسبة إليهم.
توابل - ثقافات
صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى لريتشارد سوذرن... قراءة لتبديد ثقافة الوهم الشرير
09-03-2009