رمضان له استعداداته وطقوسه الخاصة في كل بيت وفي كل شارع، يبدأ التحضير له قبل حلوله بفترة طويلة، وهو يختلف من بيت إلى آخر, لكن ماذا عن التحضيرات داخل دور الأيتام والمعاقين والمسنين والجمعيات الخيرية عموماً؟ وكيف يقضي هؤلاء 30 يوماً في رمضان؟ «الجريدة» جالت داخل بعض هذه الجمعيات ورصدت التفاصيل التالية:تجتذب حكايات الضوي الساهرين والعطاش إلى القصص الشعبية والغناء التراثي وزمن الأساطير، يروي لهم مقاطع من سيرة أبي زيد الهلالي وقبيلته التي تنقلت بين أرجاء العالم العربي ويرتجل كل ليلة أبياتاً جديدة تضفي على ما يحكيه سحراً وغموضاً أخاذاً، تتوقف الأنفاس معه فيما تتصاعد نبراته مع الإيقاع الموسيقي المرافق له خصوصاً عندما يتطرق إلى المعارك ويعود فينساب هادئاً حين يتحدث عن المحبوبة. تحكي السيرة الهلالية تاريخ قبيلة بني هلال المتحدرة من اليمن والتي هاجرت إلى الحجاز، ثم إلى ربوع العالم وشاركت في المعارك الإسلامية الكبرى. تدور السيرة حول البطل الأسطوري أبو زيد الهلالي الذي ولد أسود اللون من أبوين لونهما أبيض، ما دفع بالأب إلى ترك أمه. أبو زيد مقاتل شجاع كان على وشك أن يقتل والده الذي لم يكن يعرفه خلال إحدى المعارك، لكن بحسب الأسطورة، شلَّت أيدي الأب والإبن في اللحظة الحاسمة. يروي الضوي السيرة بأشكال مختلفة، أبرزها وأشهرها شكل المربعات الشعرية الصعيدية، وهي ما تميز الغناء الصعيدي، وتتكون من أربعة يتوافق الشطر الأول والثاني لفظياً ويختلفان في المعنى، وتتولد الحكمة عبر المربعات المتلاحقة. يقول الضوي: «نفحات رمضان هي التي تحملنا معها ويعبر عبق الماضي إلى ذاكرتنا لتتوهج الحكايات، بعدما أصبحت مهنة الحكواتي والرواة مهددة بالزوال، في زمن السرعة الذي نعيشه، ولولا بيت السحيمي والشاعر عبد الرحمن الأبنودي لما كنا قدمنا تلك الحكايات في رمضان ولا التفَّ حولنا الجمهور»... وعن المقارنة بين المستمعين في الماضي وجمهور اليوم يوضح الضوي: «لا يدرك مستمعو اليوم معاني كلمات كثيرة في الحكايا التي أرويها ويسألني عنها كثر بعد الإلقاء، عكس جمهور زمان، الذي كان يدرك الفن المبطن والظاهري في الكلمات». سيد الضوي من مواليد 16 فبراير (شباط) عام 1934، في مركز قوص في محافظة قنا، تربى في رحاب السيرة الهلالية التي تعلمها من والده. بدأ تعلُّمها وهو في العاشرة من عمره، بعدما شجعته أمه على حفظ كل ما يقوله والده، فتعلق بها وحفظها وازداد تعلقه بعدما سمعها من جابر أبو حسين، أشهر راوة السيرة الهلالية في العالم العربي، وحفظ نحو مليون بيت شعر منها. ومن أغنيات الضوي في الليالي الرمضانية والتي يشاركه فيها الأبنودي أغنيه ينشدها على لسان إحدى الفتيات: جالت يا باي جولي تلت عرسان أول ما فيهم يا باي غنى والمال زايد عليه بزيادة وتاني ما فيهم يا باي حُسن الجمال والجمال زايد عليه بزيادة وثالث ما فيهم فجير الحال والفَجْر زايد عليه بزيادة جالها (كلام الأب) إذا أخدتي صاحب المال هايزيدك مال وزيادة وإذا أخدتي حسن الجمال هايزيدك جمال وزيادة وإذا أخدتي فَجْير الحال هايزيدك فجْر وزيادة جالت يا باي: إذا أخدت صاحب المال هايتجوز عليّ تلاتة وزيادة وإذا أخدت حسن الجمال هايعشجوه مني اتنين تلاتة وزيادة أنا هاخد فجير الحال أُحط باطه على باطي لحد الصباح وزيادةحول اندثار مهنة الحكواتي، يقول د. صلاح الراوي، أستاذ الأدب في جامعة الأزهر: «تكاد القصص الشعبية المروية تنقرض لأن حياة الناس تغيرت بعد دخول التكنولوجيا، فأصبحوا أكثر واقعية وابتعدوا عن الخيال، نتج من ذلك خروج الحكايات الشعبية من إطارها إلى النصوص المكتوبة. كان الفقراء في الماضي يدارون عجزهم عن شراء الكتب بالتفافهم حول الحكواتي أو الراوي، الذي يخطط مئات القصص ويحكي قصص الأبطال والفرسان المغاوير، في زمن انتشر فيه اليأس والخوف، فيعيد الأمل في النفوس ببعث شخصيات تاريخية كعنترة بن شداد وسيف بن ذي يزن والمهلهل بن عدي بن ربيعة وتحويلهم إلى أبطال أسطوريين». يرجع البعض ظهور الحكواتي إلى زمن المغول وانهيار دولة الخلافة الإسلامية، ومع ذلك لا يعد الحكواتي مؤرخاً، حيث يروي السير والقصص الشعبية وفق نسق خاص وبحرية، ولا يهمه إلمامه بالأحداث أو صدق الوقائع ومطابقتها لما جرى، فيطلق العنان لخياله. من أبرز القصص والسير التي تروى في رمضان «تغريبة بني هلال». الشاعر عبد الرحمن الأبنودي مولعٌ بتلك السيرة، خصص لها من وقته وجهده الكثير، ليحولها إلى نصٍ أدبيّ فاخر. تحكي ما يُعرف بتغريبة بني هلال، أو نزوحهم من براري نجد القاحلة إلى مملكة تونس الخضراء، تحفل بالأبطال: أبو زيد الهلالي سلامة ذو السحنة السوداء الذي يستخدم سحنته مراراً للتنكر والتخفي، الأمير الهلالي ذياب بن غانم بطل قبيلة بني زغبة وفارسهم الأوحد، حسن بن سرحان أمير القبائل الهلالية وصاحب الكلمة الأولى، القاضي بدير بن فايد الذي يلجأ إليه الأمير حسن للقضاء والمشورة، الجازية بنت سرحان أخت الأمير حسن التي يعشقها أبو زيد ذو السحنة السوداء، الزناتي خليفة ملك تونس الذي يحاول حمايتها من عدوان الهلاليين ولا يملك المستمع إلا التعاطف معه، إذ يفعل المستحيل لحماية وطنه وشعبه من هذه القبائل البدوية الهمجية، لكن سرعان ما يسقط ضحية لدبوس فارس «بني زغبة» ذياب بن غانم، لتسقط معه تونس نهبة أمام القبائل الهلالية. لكن الراوي لا يستطيع التخلص من حقيقة بداوة أبطاله، إذ سرعان ما يختلفون في ما بينهم ليقتل بعضهم بعضاً.«الزير سالم أبو ليلى المهلهل»تعتمد «الزير سالم أبو ليلى المهلهل» على الرواية التاريخية المحكية عن حرب البسوس، التي نشبت بين قبيلتي بكر وتغلب بسبب قتل جساس بن مرّة كليب بن وائل سيد تغلب من أجل ناقة، ما يوقظ في شقيق القتيل «عدي بن ربيعة» نار الثأر، ويجعله يتوقف عن اللهو واللعب لينذر نفسه للانتقام، كما عبر عن ذلك في مقولته الشهيرة: اليوم خمرٌ وغداً أمر. « سيف بن ذي يزن» تبدأ السيرة بالحديث عن الملك ذي يزن وسبب تحوله من عبادة الأوثان إلى الحنفية ملة ابراهيم، ثم تدخل قمرية، الجارية الحبشية التي أهداها ملك الأحباش لذي يزن، في الأحداث، لتكون منفذاً له على البلاط اليمني. تقتل قمرية زوجها ذا يزن وتتخلص من وليدها الصغير وترميه في العراء. سرعان ما تحن غزالة إلى الطفل وتبدأ بإطعامه، إلا أن الجن يعثرون عليه ويربونه، لينشأ الولد باسمِ «وحش الفلاة»، وبصحبته أخت رضاعة من الجن تُدعى عاقصة، وتصور السيرة مغامرات وحش الفلاة، وكيف قهر المصاعب وسفره إلى جزر واق الواق ليسترجع زوجته الملكة منية النفوس. في هذه الجزر سترى عجباً، فثمة جزيرة مُسخ سكانها إلى ورود، وأخرى تصرخ فيها النباتات وتحاول الإمساك بمن يعبر. يتمكن الملك سيف من قطع الأهوال وتجاوزها، حتى يصل إلى مدينة البنات، حيث تحكم النساء مدينة كاملة لا يسمحن فيها بدخول الرجال. «عنترة بن شداد» عنترة بن شداد هو البطل العبسي الأسود الذي ورث لونَ أمه زبيبة الحبشية الأسود، فرماه أبوه بين العبيد، وعهد إليه رعاية الغنم. لكن لون عنترة الأسود لا يقف حائلاً أمام نفسه الشجاعة وغرامه العاصف بابنة عمه البيضاء عبلة بنت مالك. عندما تتعرض قبيلة عبس للنهب، يصرخ أبوه شداد: «كرّ يا عنتر.. كرّ.» فيجيبه عنترة متهكماً: «العبدُ لا يحسنُ الكرّ والفرّ، وإنما يحسنُ الرعاء والصرّ»! حينها ينطق شداد بكلمته السحرية: «كرّ وأنت حرّ». بعد أن يحصل عنترة على حريته، يتقدم إلى خطبة ابنة عمه عبلة، لكن يرفض والدها المتعصب أن يزوجه، ويشترط عليه، بغرض الإيقاع به، أن يجلب مئةً من نوق الملك النعمان الحمر ليزوجه ابنته. بهذه الحبكة الدرامية، ينجح الرواي في جعل عنترة بطلاً قومياً، يخرج عن نطاقِ القبائل العربية، ليواجهَ أبطال الفرسِ المجوس.تعتبر نهاية عنترة من أكثر النهايات درامية في السير الشعبية، سقط الفارس العبسيّ ضحية غدر الأسد الرهيص الذي رماه بسهم في حينِ غِرة أثناء تبوله. تحدثنا السيرة أن عنترة صرخ من الألم والغضب صرخة أسقطت الأسد الرهيص ميتاً للحظته. عندما تعلم عبلة بفداحة الكارثة، تربط عنترة على حصانه وتسير وراءه ليحميها بصيته المشهور الذي يدخل الرعب في القلوب، حتى تصل إلى مضارب بني عبس. لطالما حدثني كبار السن أنهم كانوا يذرفون الدمع وهم يقرأون الفصل الأخير من سيرة البطل العبسيّ، أكثر الأبطال حرية.
تحقيقات ودراسات - تحقيقات توابل
روى عطش الساهرين بقصص الأبطال الفرسان سيد الضوي... أشهر الحكواتيِّين وآخر رواة السيرة الهلاليَّة
05-09-2008