الكسرة من أنواع الشعر الذي ينشأ باللغة الدارجة لعدم التزام مبدعيه الضوابط النحوية، وهو محاكاة للشعر العربي الفصيح أوزانه وقوافيه وأشكاله وفنونه ويخضع لمناهج نقده، ومعايير جماله، إلا أن المفاهيم الخاصة بأساليبه قد تخذل الناقد غير الملم بها وتخلف تقديراته، وهي ما تتصل باللغة والعبارات التي تفهم سمعياً أو من السياق. وإذا كانت نشأة الشعر النبطي لم تحسم تحديداً فما بالك بفروعه كالمجرور والكسرة والحداء وغيرها، وكل ما أمكن التوصل إليه عن نشأته إشارات مــــن الجاحظ على أهمية أدب العامة، وإشارات إلى شعر النبط والأشعار الهلالية التي نظمها أفراد لم يكن همهم الأدب، وإنما هم تشكيل من القبائل العربية استهوتهم المغامرة وحب القتال ولم يكن يشغلهم علم أو مهنة تصرفهم عن الانجراف مع هذه الحملات التي كان معظم أفرادها أميين فأتوا بشعر بين الفصحى والدارج من التعبير. كما أشار إلى شيء منه ابن خلدون على أن أقدم قصيدة نبطية وجدت مكتوبة كانت للشاعر أبي حمزة الذي عاش بين القرنين السابع والثامن الهجريين، وحدد تاريخها من أسماء الأشخاص والأحداث المشار إليها في القصيدة.وقد عرف الشعر الفصيح قديماً المثنيات الشعرية في الحوار والخطاب، وفي العصر العباسي ظهر الدوبيت وهو شعر البيتين، ثم ظهرت الرباعيات وأبرزها رباعيات الخيام، وأجزم أن رباعيات الخيام من كسرات الفصحى، لما بينها وبين الكسرة من توافق في الإيجاز والفكرة الواحدة وتكثيف البناء والتشكيل المكون من أربعة أعمدة وتماثل الثلاثة الأجزاء الأولى في العرض والتصوير وانفراد الجزء الرابع بالمفاجأة والدهشة والرسالة الموجهة من الشاعر. كما شاع في القرن التاسع الهجري في البلاد العربية قاطبة شعر في شكل مقطوعات قل أن تزيد عن البيتين، واشتهر شعراء الحجاز بهذا اللون الظريف، ومن ذلك أن الشاعر الحجازي الملقب «كبريت» دعا صديقاً لمصاحبته في نزهة فقال: ياذا المعالي نحن في نزهة فانقل إلينا القدم العاليةأنت الذي لو تُشْتَرَى ساعة منه بدهر لم تكن غاليةأربعة أركان لهذه الدعوة الموجزة كما هي الحال في الكسرة، مخاطب، دعوة، حرص ورغبة في المشاركة، وتقدير واعتزاز وقفلة أو ختام مثير للوعي. ومن هذا المنطلق أخلص إلى أن الكسرة ربما ظهرت خلال القرنين الهجريين العاشر والحادي عشر، وأنها محاكاة للأشعار ذات البيتين في الفصيح.وقد أشار الدكتور عايض الردادي إلى أن القرن الهجري العاشر شهد ظهور بعض الكلمات العامية في الشعر الحجازي، فيقول: «وحذر المثقفون في أواخر القرن العاشر إلى خطر تسرب بعض الألفاظ العامية إلى اللغة الفصحى في شعر بعض شعراء الحجاز الذين عاشوا في عهد أبي نمي بن بركات... على أن المجتمع الحجازي آنذاك وُجِدَ فيه شعر عامي لم تتناقله المصادر ولكنه ظل متنقلاً على الألسن إلى وقتنا الحاضر». ويرى الدكتور الردادي أن السبب في عدم تدوين هذا الشعر يعود إلى عاملين: «أولهما، ان المدونين من أنصار الفصحى الذين يقفون موقفاً حازماً من تسرب العامية إلى الفصحى وخصوصا في ذلك الزمن. وثانيهما، أن أخبار القبائل لم يكن يدون منها إلا الجانب السلبي الذي يرضي الحاكم... ولكن المدونين بدأوا يدونون شيئاً من الشعر العامي في بداية القرن الثاني عشر حينما صار ذلك الشعر لأحد أمراء مكة المكرمة... وهذا التدوين قليل ولكنه يعطي صورة من التسامح الذي بدأ يأخذ طريقه إلى نفوس المدونين في قبول الشعر العامي في مؤلفاتهم».ومن الشعر الشعبي ثنائي الأبيات، الذي يشبه الكسرة من حيث القافية والفكرة وقرابة الوزن ما ينتشر في صعيد مصر، وهي منطقة تبادل ثقافي قديم لوقوع هذه المنطقة قرب الشاطئ الغربي للبحر الأحمر ووجود منطقة الكسرة على الشاطئ الشرقي له، فمن أمثلة الشعر الذي يسمونه المربع الصعيدي قولهم:إن صادفك سعد الايام خلك على الشط ديمهواحذف عصاتك لقدام عوجا بتجي مستقيمةومن شعر الهجيني الثنائي الأبيات مما يوافق شعر الكسرة معنى ووزناً وقافية قولهم:وان جيت اهيجن ما انا هجان وأريد أفضِّي على باليوحياة من خضر الوديان البعد ما يرخص الغاليأما التسمية فقد اختلفت الآراء حديثاً حولها، «فالكسر هو النزر القليل، ونزر قليل من الشعر، وقد يُعبر عن التكسير في المساحة والحساب، وكسر الكتاب على عدة أبواب وفصول» هذا ما جاء في تاج العروس للزبيدي عن هذا الموضوع، وفي بعض أوساط الكسرة يُقال: لدينا كسرة جديدة تحتاج إلى تكسير أي تحليل وتفسير، والتكسير يفيد التجزئة، والكسرة الواحدة جزء من المحاورة في الرد كما هي الحال في الرديح، ويقول الناقد سعد الجحدلي: «وكثير من الكسرات تعتمد على الإيحاءات والرمزية التي تجعل منها لغزاً يجب التعامل معه بحذر حتى لا تفقد مميزاتها التي تعتمد على التفسير والتأمل...».ويرى الدكتور عبدالله المعيقل أن التسمية تعود إلى انكسار الصوت فيقول: «واسم الكسرة مأخوذ من طريقة تنغيم الصوت أو انكسار الصوت الذي تغنى به في ألحان الرديح». ويرى آخرون أنها سميت كذلك لأنها تكسر حواجز البوح أو الكتمان عند تفجّر المعاناة المكبوتة للتعبير عن القلوب الجريحة الكسيرة، ومنهم مَن يقول سميت كسرة لأنها كسرت قاعدة القصيدة من الطول إلى الإيجاز.ونقول: إن تكسر الأنغام والألحان من طبيعة الغناء وليس الكسرة وحدها، وإن الكسرة تولد شعراً ويتناقلها الناس وقد يتغنى بها أو لا يتغنى بها، وتظل كسرة، والأصل في الكسرة الشعر، أما تنغيم الصوت أو انكساره في الرديح... وتكسر الأنغام يحدث حينما تغنى الكسرة في الرديح أو في أي مكان آخر، وانكسار اللحن في الرديح يعني انتهاء حوار ولحن، تمهيداً لبدء حوار آخر وبلحن آخر.أما القلوب الكسيرة فإن الشعر بعامة للقلوب الكسيرة دور في انبعاثه، ولـه تأثير عليها وليست الكسرة وحدها الشعر الذي له هذه الميزات. وفي المجالس والملتقيات يأتون بجديد الكسرات، ويشدون إليه الأنظار، بأن كسرة وردت وانتشرت فأين الشعراء لتكسيرها أي تفسيرها وتحليلها؟ وهذا ما دعا بعضهم لتسميتها فسرة، ورد التسمية إلى التكسير.وعلى أي حال، فإن موطن الكسرة على امتداد الساحل الشرقي للبحر الأحمر وما جاوره من أودية ومدن وقرى، وقد تجاوزت الكسرة اليوم هذا المدى إلى مناطق أخرى قريبة منه وبعيدة، وأجد أن منطقة ما بين المدينة المنورة والبحر الأحمر أكثر المناطق احتفاء بالكسرة واهتماماً بها يقول شاعرهم:انا اشهد ان الهوى كسرة وما بقى يا ملا تفسيح سلطان وأوزارها عشرة واللي بقى مع هبوب الريح.
توابل - الرواق
فن الكسرة: إيجاز رشيق من الحكمة (2-2)
05-12-2008