انتهت «حرب غزة» بعد أكثر من ثلاثة أسابيع مضرجة بدماء الشهداء والجرحى، بهزيمة إسرائيل سياسياً وعدم قدرتها على الانتصار عسكرياً، بالضبط كما كان متوقعاً قبل العدوان. هكذا سكتت المدافع وانقشع غبار المعارك لتبدو صورة المشهد الفلسطيني والإقليمي مختلفة إلى حد كبير عن حالها قبل العدوان الإسرائيلي؛ إذ تغيرت التوازنات والأوزان الإقليمية واختلطت الأوراق والحسابات الإقليمية بشكل يضع منطقتنا أمام حقائق جديدة، وبما يتجاوز الحدود السياسية لمسرح العمليات العسكرية في غزة.

أظهرت «حرب غزة» أن الأداء السياسي الحمساوي لم يعد محكوماً بصيغ أفعل التفضيل ولا بالبلاغة اللغوية مثلما كان في السابق، بل إنه تفوق في بصيرته السياسية وخطابه السياسي على نفسه وأدار المعركة بقدر كبير من الوعي بالظروف المحيطة وبالأهداف الإسرائيلية المتوخاة من الحرب، وأحرزت حركة «حماس» عدة إنجازات سياسية يصعب التعامي عنها حتى من المعارضين لها إيديولوجياً وسياسياً، ويشكل يجعلها تخرج رابحة سياسياً من حرب أولمرت عليها وعلى قطاع غزة.

Ad

الانتصار الرمزي الأول لـ«حماس» تمثل في حقيقة أن صواريخ غراد- حتى مع تردي نجاعتها العسكرية- قد وصلت إلى مناطق لم تصلها من قبل، وسقطت في بئر السبع وأشدود وعسقلان، كما لم تستطع تل أبيب طيلة ثلاثة أسابيع ترجمة التفوق الكاسح لآلتها العسكرية وسلاحها الجوي إلى مكاسب سياسية واضحة، وبحيث بات على مفكريها الاستراتيجيين العودة مرة أخرى إلى الأدبيات الأساسية لعلوم الاستراتيجية لاستخلاص العبر والدروس.

يقول كارل فون كلاوزه فيتز الاستراتيجي الألماني الأشهر في مؤلفه الموسوعي الشامل «عن الحرب»، الذي يعد من أساسيات الكتب في علم الاستراتيجية، إن «الانتصار التكتيكي العسكري هو بالضرورة انتصار مرحلي، ما لم يتوج بهدف سياسي أشمل يجعله انتصاراً استراتيجياً». ولذلك فاستعراض الإمكانات التدميرية لسلاح الجو الإسرائيلي على سكان قطاع غزة بهدم المباني الإسمنتية فوق رؤوس النساء والأطفال، لم يعن أن تل أبيب نجحت في تدمير المباني الفكرية لحركة «حماس» في غزة، بل إن الحضور العسكري للحركة بعد «حرب غزة» مازال كافياً لاستمرار سيطرتها على القطاع، وهو ما يمنع تل أبيب بالنهاية من الانتصار سياسياً. يتمثل الانتصار الرمزي الثاني لحركة «حماس» في احتفاظها بسلاحها وعدم قدرة أولمرت وجيشه على نزع هذا السلاح، وبالعودة إلى كلاوزه فيتز وكتابه المرجعي المذكور نجد أن «تدمير القوة العسكرية للخصم هي المبدأ الحاكم في الحرب»، وهو ما لم تستطع تل أبيب فعله بأي حال مع حركة «حماس».

وتعزز الفشل الإسرائيلي في تحقيق الأهداف السياسية من «حرب غزة»، فلم يتحرر الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليت، كما أخفقت في فصل الشعب الفلسطيني عن حركة «حماس» سياسياً، بل أطلقت حملة تعاطف دولي واسع مع القضية الفلسطينية في أنحاء العالم، ولم يقتصر الفشل الإسرائيلي على ذلك فحسب بل إن قرار مجلس الأمن رقم 1860 والداعي إلى وقف إطلاق النار قد اعترف في مضمونه بسيطرة حركة «حماس» على غزة لأول مرة منذ قيام الحركة. لم تعد تل أبيب تقاتل جيوشاً عربية كلاسيكية تحركها دول تنتمي إلى العالم الثالث، فتنتصر عليها بأحدث تقنيات السلاح الأميركي وبتفوق سلاح الجو وقدرته على التمهيد للحرب البرية، بل أصبحت تل أبيب تقاتل حركات مسلحة تسليحاً خفيفاً ومتوسطاً من الناحية العسكرية، ولكنه تسليح ثقيل من حيث الحمولة الإيديولوجية والعقائدية، وهذا التحول في جولات إسرائيل العسكرية يجعلها على الدوام خاسرة سياسياً حتى قبل أن تبدأ المعارك.

مرة أخرى نعود إلى كلاوزه فيتز حين يخرج بقاعدته الأساسية عن الحرب ومفادها أن «الغرض السياسي هو الهدف الأساسي من الحرب، والحرب ما هي إلا وسيلة الوصول إلى هذا الهدف، ولكن الوسائل لا يمكن أبداً تعقلها بمعزل عن الغرض منها»، وبتطبيق هذه القاعدة على ما جرى في «حرب غزة» تتأكد النتيجة المشار إليها لناحية هزيمة إسرائيل سياسياً. فقط يتبقى على «حماس» الدعوة إلى مصالحة فلسطينية-فلسطينية وحوار وطني شامل بين الفصائل الفلسطينية المختلفة لتظهير انتصارها السياسي على أولمرت وجيش العدو الإسرائيلي، وإجبار أولمرت على دفع ثمن كبير لقاء مذابحه الفاشية والوحشية في قطاع غزة. حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية هي الهدف والمنتهى والحل في هذه اللحظة التاريخية الفاصلة!

* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية  والاستراتيجية - القاهرة