من الأشكال الأدبية التي يستعملها القرآن القصص والأمثال للتعبير عن المضمون في مجتمع ثقافته أدبية وهو الشعر والنثر الفني، وقد استعمل لفظ «القصص» ستا وعشرين مرة: عشرين فعلا وستة أسماء للدلالة على ثمانية معان:

Ad

الأول قصص الأنبياء لإخبار الرسول بأنبياء الأمم السابقين وتجارب الأنبياء مع أقوامهم من أجل تربية الوعي التاريخي عن الرسول «وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ»، فقبل الحاضر يأتي الماضي، وقبل البنية يأتي التاريخ حتى تتجذر أصولها وتثبت في الوعي التاريخي «وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ»، ولا يحتاج الوعي التاريخي إلى كل الأنبياء، يكفي البعض الذين في الوعي التاريخي من قبل من خلال القصص السابق دون البعض الآخر «وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُـلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ». يكفي الرسل أولو العزم: آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، المراحل الكبرى في النبوة دون المراحل الصغرى، إسماعيل وإسحق ويعقوب ويحيى وزكريا ومريم.

والثاني يخبر هذا القصص الرسول بأنباء القرى «تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا»، فقد كانت القرية نموذج الأمة والشعب في التاريخ، ينهض ويسقط، يقوم وينهار «ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ»، وظيفة القصص الإخبار عن أنباء ما سبق «كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ»، فالوحي والتاريخ شيء واحد، وما يأتي رأسيا من الوحي مصدق لما يأتي أفقيا من التاريخ، تراكم الوحي.

والثالث القصص هو الذي يأتي بالآيات والبراهين على صدق الوحي في التاريخ، «أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي»، فالرسول يبلغ قومه آيات الله عبر القصص كبرهان على صدق الوحي في التاريخ، لذلك قام علم التاريخ مستندا إلى هذه الآيات، فالآية هنا قص وبرهان تاريخي، سماع ومشاهدة، نص وواقع، وحي وتاريخ.

والرابع القصص عبرة، تبعث على الشجاعة وعلى الخوف «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ»، فالتاريخ يعيد نفسه، والإيمان يدرك أن القصص واقع، وأن التاريخ قصة، التاريخ اعتبار. يبعث على الخوف لأنه شاهد عيان على صدق الوحي، فالقصة هنا ليست محض خيال بل هي رؤية لما حدث، وواقع تحول إلى ذاكرة، وذاكرة أصبحت دليلا حيا على صدق القصة.

والخامس أن من يصدق في حقه القصص يثق بما يسمعه لأنه يعلم أنه القصص الحق، وأن من يصدق في حقه في الحاضر هو مثل الذي صدق في حقه في الماضي فلا يخاف «فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ»، فالعالم بالقصص والخير به يطمئن من يسمعه لأول مرة، الأفقي تصديق للرأسي، لذلك كان قصص اليهود تصديقا لقصص القرآن.

والسادس، القصص هو أحسن القصص الذي لا خلاف فيه بين السمع والمشاهدة، بين الوحي والتاريخ، بين الحاضر والماضي، بين النظرية والتصديق، «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ». وهو القصص الواقعي الذي يتطابق فيه المعنى مع الواقع، والقصد مع التجربة بعيدا عن الأحلام والخيالات كما هو معهود في القصص والحكايات. يقص على بني إسرائيل ما كانوا فيه يختلفون «إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ». وقد يعني القص متابعة الواقع ووضعه تحت البصر وعدم خروجه عن مجال الرؤية «وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ». القصص هو تتبع مسار الواقع ووصفه كما هو دون مبالغة «قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا».

السابع، هو قصص بالحق. لا يقص إلا عن واقع مشاهد «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ»، فهو مثل ما يقال في النقد الأدبي القصص الواقعي التاريخي أو القصص الواقعي. لا يعبر إلا عن حقيقة، والحقيقة مطابقة للواقع «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ». هو قصص عن علم وليس عن خيال، «فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ»، فالقصص عن مشاهدة ويقين وليس عن أخبار ووسائط معرفية بل عن معرفة مباشرة دون رواية.

الثامن، القصص للتفكر والاعتبار والاتعاظ «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ»، فالتاريخ موعظة وعبرة «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ»، لذلك كانت جلسات الاستماع للقصص مثل حلقات الذكر عند الصوفية للاعتبار والموعظة. القصص وسيلة للتربية وتهذيب النفس، وطالما أعطيت للأطفال في دروس التربية الدينية.

وهي غير قصة الحلم وتعبير الرؤيا الشبيهة بالقصص، فهو قصص ذاتي لا شأن له بقصص الأنبياء، قد يصدق وقد لا يصدق «قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ» تجنبا للحسد والغيرة، ومع ذلك وقع ما كان لا يمكن تجنبه، وحدث ليوسف ما حدث حتى أكرم في قصر العزيز فرعون مصر، وأصبح وزيرا في بلاطه، وأنقذ مصر من المجاعة، فالقصص القرآني يعطي نوعا من الحكاية الوصفية للواقع دون مبالغة أو خيال كي يتحول الوعي بالتاريخ إلى وعي بالواقع.

* كاتب ومفكر مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء