عُرّيت أخيراً جدران القصر الجمهوري المهيب في منطقة بغداد الخضراء. واختفت الخزائن التي احتوت مال الأميركيين ووثائقهم السرية. كذلك هُدمت أسوار الإسمنت المسلح التي حمت المدخل الرئيس. أما المنشأة العسكرية الأميركية التي اعتادت تقديم الطعام داخل ما كان سابقاً السفارة الأميركية، فقدمت وجبتها الأخيرة ليلة رأس السنة. «هذه نهاية العالم في نظرنا»، يقول رقيب الصف الأول باتريك ماكدونالد (47 عاماً) الذي شارك في وضع دليل سياحي عن المواقع التاريخية في المنطقة الخضراء في بغداد. ويضيف: «لا أقصد بكلامي هذا أن الجميع بدأ يمزق الوثائق ويهرب من سايغون. إلا أننا نتخلى عن هذا المبنى».زيّن صدام حسين المبنى الرئيس في القصر بتماثيل ضخمة له تبرز مدى سيطرته على العراق. لكن بعد غزو عام 2003 الذي قادته الولايات المتحدة الأميركية، تحوّل القصر إلى رمز يجسّد الدور الأميركي في البلد. فشكل أولاً مقر سلطات الاحتلال الأميركية، ثم تحوّل إلى سفارة أميركية. واعتاد الجنود والمدنيون الأميركيون إقامة حفلات رقص السلسا ليلاً حول حوض السباحة وراء القصر، قبل الخلود إلى النوم في مقصورات مغطاة بأكياس من الرمل.عندما دقت الساعة منتصف ليل الأربعاء في 31 ديسمبر (كانون الأول) 2008 معلنة نهاية السنة، أعادت الولايات المتحدة القصر إلى الحكومة العراقية وتنازلت عن السيطرة الرسمية على المنطقة الخضراء، وهي منطقة محصّنة تبلغ مساحتها نحو 16 كيلومتراً مربعاً على نهر دجلة حيث يقيم أهم البيروقراطيين الأميركيين والعراقيين.اعتُبرت عملية التسليم هذه إشارة إلى انحسار تأثير الولايات المتحدة في بلد فُقدت فيه آلاف الأرواح وأُنفقت ملايين الدولارات. وتمثّل هذه العملية في نظر عراقيين كثر خطوة مهمة نحو الأمام في مسيرة استعادتهم السيطرة على شؤونهم الخاصة تدريجاً.في هذا المجال يقول عدنان كريم (22 عاماً)، جندي عراقي يقف عند نقطة تفتيش على أحد مداخل المنطقة الخضراء، والبهجة تشع من عينيه: «في الأول من يناير (كانون الثاني) سنسترجع هذه المنطقة. سيكون الأميركيون مجرد مشرفين. إنها مسألة عزة وكرامة».أعلام عراقيّةفي الأيام الأخيرة، ارتفعت الأعلام العراقية على مداخل المنطقة الخضراء التي تشبه المتاهة. كذلك سُمح لعدد أكبر من العراقيين بدخولها، فملأوا الطرقات التي سيطرت عليها سابقاً آليات الجيش الأميركي والمركبات المدرعة. أما الأميركيون فقد تفادوا المخاطرة بالخروج من المجمعات الأميركية بمفردهم، خصوصاً بعد حلول الظلام.أنهى السفير الأميركي راين كروكر وفريق عمله أخيراً عملية الانتقال إلى مجمع السفارة الذي بُني حديثاً. يتألف هذا المجمع من أبنية برتقالية زاهية تتخللها نوافذ صغيرة مضادة للرصاص. ومن المتوقع أن تصل كلفته إلى 736 مليون دولار. وقد واجهت عملية بنائه الكثير من التأخير وتخطت الميزانية المخصصة لها مرات عدة.رفض المسؤولون العراقيون والأميركيون، الذين عينوا أخيراً لجنة ستشرف على عملية تسليم المنطقة الخضراء، إعطاء تفاصيل كثيرة حول الموضوع. لكن عموماً، هدف الخطة الموضوعة على الأمد الطويل، والتي قد تتبدل في حال ساء الوضع الأمني، إبقاء عدد صغير من المجمعات الأميركية تحت حراسة مشددة، مع فتح مناطق أخرى أمام العموم تدريجاً.جاءت عملية التسليم هذه منسجمة مع ما ورد في الاتفاقية الأمنية التي وقعتها الولايات المتحدة مع العراق أخيراً. دخلت اتفاقية «وضع القوات» هذه حيّز التنفيذ يوم الخميس بداية العام الجديد ونصت على استبدال قرار الأمم المتحدة الذي منح الحكومة الأميركية صلاحيات واسعة منذ الغزو. جاء في هذه الاتفاقية أن العراق يستطيع طلب «دعم محدود وموقت» من الجيش الأميركي بغية تأمين المنطقة الخضراء. لكنّ مسألة تحديد التفاصيل تُترك لأعضاء اللجنة، الذين عُيّنوا حديثاً.احتياطاتفي حديث خاص لـ «الواشنطن بوست» ذكر مسؤولون أميركيون أنهم سيحاولون جعل وجودهم في المنطقة الخضراء محدوداً في الأيام القليلة المقبلة. لكنهم لن يتخلوا عن مهمة إصدار الشارات التي تخوّل حاملها دخول أجزاء مختلفة من المنطقة. كذلك قالوا إنهم لن يفككوا في الحال جهاز الأمن الواسع الذي يشمل مئات الحراس من البيرو وأوغندا، فضلاً عن آلات المسح وكاميرات المراقبة وكلاب الشم.علاوة على ذلك، أعلن مسؤولون عراقيون وأميركيون أن المتطرفين قد يستغلون المرحلة الانتقالية ليلحقوا الأذى بالولايات المتحدة وحكومة رئيس الوزراء نوري المالكي.أمضى المسؤولون الأميركيون في المنطقة الخضراء آخر أيام شهر ديسمبر (كانون الأول) الفائت في حالة تأهّب قصوى، بسبب تقارير عن متطرفين يخططون لهجوم متشعب، يستقطب اهتمام وسائل الإعلام ويستهدف أميركيين ليلة عيد الميلاد أو رأس السنة.وبناء على معلومات جمعتها أجهزة الاستخبارات الأميركية، اعتقل المسؤولون العراقيون نقيباً في الجيش العراقي وموظفاً في وزارة الداخلية العراقية، حسبما أفاد مسؤولان أميركيان رفضا الإفصاح عن هويتهما بسبب تحدثهما عن مسائل أمنية، لكنّ قاضياً عراقياً أطلق سراح المعتقلَين لعدم توافر أدلة كافية لإدانتهما.فضلاً عن ذلك، منعت الاتفاقية الأمنية الجديدة المسؤولين الأميركيين من اعتقال عراقيين يُشتبه بارتكابهم أي جرم لأجل غير مسمى. ويقول أحد المسؤولين: «ثمة أشخاص قلقون جداً»، مشيراً إلى الخطة المزعومة والتدابير التي أثارتها: «هذا ما يحدد الواقع الذي نعيشه، واقع الحرب الباردة». وفي 29 ديسمبر 2008 سقطت في المنطقة الخضراء قذيفة هاون أو صاروخ، حسبما أفاد الجيش الأميركي.خوف عراقيالأميركيون ليسوا الوحيدين المتخوفين من عملية التسليم. فقد أعلن عراقيون كثر أنهم يرحبون بعملية التسليم الرمزية هذه، غير أنهم يخشون تداعياتها المحتملة.حول هذه المسألة ذكر الحارس في السفارة الإيطالية قاسم علي جودر (26 عاماً) في بعد ظهر أحد الأيام: «ما زال من المبكر سحب القوات الأميركية من المنطقة. لا أعتقد أن حكومتنا تملك القدرة الكافية لتؤمن هذه المنطقة من دون الأميركيين».وعبّر حارس آخر يدعى حيدر محمود (28 عاماً) عن وجهة النظر عينها. ففيما راح زملاؤه يتحدثون عن التسليم الوشيك، قال: «نفضّل أن تبقى القوات الأميركية مسؤولة عن المنطقة الخضراء. لا شك في أن القواعد والتنظيمات ضرورية. أحترم قوى الأمن العراقية، إلا أنها تعجز عن منافسة القوات الأميركية».طالما اشتكى المشرعون العراقيون وموظفو البرلمان من خضوعهم لتدابير أمنية مشددة وهم في طريقهم إلى مكان عملهم. فقبل حصولهم على الشارة التي تخوّلهم التنقّل في المنطقة الخضراء، يخضعهم الجنود الأميركيون لمسح بصماتهم وحدقتي عينيهم.كذلك خضع كثيرون عند دخولهم المنطقة إلى عمليات تفتيش عدةّ يومياً واضطروا إلى الوقوف جانباً، فيما راحت الكلاب تتفحص حقائبهم بحثاً عن أي متفجرات. ولم تكن التدابير الأمنية هذه بلا مبرر. ففي العام 2007، انفجرت قنبلة في مطعم البرلمان.ذكر المشرع المستقل حسين شكور أن عملية التسليم في رأيه ستكون ظاهرية فحسب، على الأقل على الأمد القريب. وأوضح: «أعتقد أن الأميركيين لن ينفذوا عملية تسليم كاملة وحقيقية. ومن الطبيعي أن يبقى الأميركيون مسيطرين على الوضع. ولن تكون سيطرتهم هذه من وراء الكواليس كما يظن البعض، بل ستظهر جلياً وعلانية».
توابل - EXTRA
المنطقة الخضراء... بين السيادة العراقيّة والسيطرة الأميركيّة
05-01-2009