ثمة سباق في العالم العربي على ترجمة كتب الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، سواء في الدوريات الثقافية أو من خلال الكتب، فقبل مدة ترجم له الشاعر اسكندر حبش «حارس القطيع» و»رباعيات» وصدرا عن دار «الجمل». وترجم عبد الوهاب الملوح رسائل بيسوا الى حبيبته ونشرت على الإنترنت، كذلك صدرت حديثاً ترجمة «كتاب اللاطمأنينة» عن «المركز القومي للترجمة» بطبعته الثانية، ترجمة المغربي المهدي أخريف وتقديمه. يقول أخريف إنه لا شك في أن ظهور «كتاب اللاطمأنينة» في طبعته الكاملة للمرة الأولى في لغته البرتغالية الأصيلة في لشبونة عام 1982، سدّ شفرة أساسية في معرفتنا بواحد من أكبر شعراء العالم. قبل هذه الطبعة كانت معرفتنا بهذا الكتاب النثري الفريد جزئياً لا تتجاوز بعض النصوص والشذرات، وحتى الطبعة المشهورة من الكتاب قبل هذا التاريخ، وهي طبعة أبورطو التي ظهرت 1961 بعنوان «صفحات مختارة» لم تحو سوى مقاطع محدودة لا تشكل من المجموع الأصلي للكتاب سوى نسبة ضئيلة، ومع ذلك اعتُمد عليها في الترجمات كافة التي أنجزت الى اللغات الأوروبية، من الستينات حتى مطلع الثمانينات، من «كتاب اللاطمأنينة». يشير أخريف الى الجانب الأبرز من الصعوبات التي واجهت «كتاب اللاطمأنينة» ويتمثل في افتقار مخطوط الكتاب الذي وُجدت أوراقه موزّعة على تسعة أغلفة، الى أي نوع من التنظيم والترتيب، وفي غموض الخط وسريته وحميميته في كثير من الشذرات التي خلا غالبها من التواريخ، ما دفع محققي الكتاب الأصلي الثلاثة الى إخضاع مقاطعه لترتيب موضوعاتي متدرج يحافظ على «غفلية» المادة ويترك الباب مفتوحاً للاجتهادات. وليس «كتاب اللاطمأنينة» بيوميات تسجل أدق الخلجات وأعمقها لكائن متفرد فحسب، بل هو أسفار وحفريات في مجاهيل المعلوم ولاواقعية الواقع، وهو أيضاً تقليب غريب عجيب للمفاهيم والمنظورات والمواقع داخل الذات، من خارج المنطق المألوف وضرورات الفكر والواقع. فرناندو بيسوا (1888 - 1935)، بحسب نقاد كثيرين، حالة استثنائية في الشعر العالمي، إذ يمثل هو وزملاؤه المتخيّلون تجربة أدبيّة نادرة. ففيما نجد شعراء كثيرين مهمومين بنشر قصائدهم وتأكيد حضورهم الأدبي من خلالها، كسر بيسوا هذه التقاليد ونسب شعره الى غيره بمحض إرادته وبأسماء شعرية من اختراعه هو. فشكّل هؤلاء بيسوا تماماً كما رسمهم هو وفق رؤيته الخاصة لكل واحد منهم، مقدماً أشعاره من خلالهم.احتل هؤلاء مسرح حياة بيسوا البديلة ونافسوه في الإحساس والشعر وحتى في الوجود... الراعي البرتو كاييرو، المهندس البحري الفارو دي كامبوس، والكلاسيكي ريكاردو رييس. ثلاثة شعراء برتغاليون زيّنوا القرن العشرين بأشعار خطّها قلم واحد. يقول بيسوا: «منذ أنْ وعيتُ ذاتي أدركتُ لديَّ ميلاً فطرياً إلى التزييف، إلى الكذب الفني… كنتُ طفلاً منعزلاً ولا زلتُه، وإلى الآن لا يزال بعضٌ من وجوه مناماتي يُرافقني».يشير بعض الكتابات الى أن بيسوا، حين كان ما زال كاتباً معروفاً على نطاق محدود، نشر في مجلة AAguia نصاً بعنوان «في أريكة الانعطاف». وقبل عام من ظهور هذا المقال كان بيسوا صرح أنه سيكتب سلسلة قصائد باسم شاعر يدعى ريكاردو ريس. لاحقاً أصبح ريس أحد أبرز الشعراء الذين نافسوا بيسوا نفسه في الشعر ليبدأ الأخير بذلك مشروعه الأدبي الذي يتوزّع على أشخاص في المقام الأول ويترك للأحداث وخلفياتها آخر السطور وربما أقلّها أهمية.كتب ريس قصائد رصينة موزونة غير المقفاة حول زهو الحياة والحاجة الى تقبّل القدر. ولد في أوبورتو (1887)، التي أصبحت بؤرة أحياء القوى الملكية بعد تأسيس الجمهورية البرتغالية عام 1910. ثم رحل ريس المتعاطف مع الملكية هارباً الى البرازيل. ويُفترض أنه امضى بقية أيامه هناك، على الرغم من أن ثمة، بين آلاف الأوراق التي خلّفها بيسوا عند موته، خطاباً للدكتور ريس في بيرو. آمن ريس بـأن «الشعر موسيقى نصنعها بالأفكار… وأن الشعر حينما يكون أبردَ يكون أصدقَ». « له 127 قصيدة تقول إحداها: «لا شيء ينْقُصُنا لأننا لا شيء».أما ألبيرتو كاييرو (1887 – 1915) الذي عاش في الريف فقد مثّل «أنا» أخرى لبيسوا، زعمت أنها لا تملك فلسفة، وطمحت الى رؤية الأشياء كأشياء من دون أي أفكار مضافة. طموح كاييرو مستحيل في النطاق اللغوي، وكل قصيدة وُقّعَتْ باسمه تشير، الى المساحة الفارغة من الصفحة، الى الصمت.بدوره ولد ألفارو دي كامبوس في منطقة الجرف في البرتغال عام 1890، ودرس الهندسة في غلاسكو. سافر الى الشرق، ثم عاش سنوات قليلة في إنكلترا، عاد بعدها الى البرتغال. أعلن أنه الشاعر الحسّي، وقصائده الطويلة المبكرة، المتأثرة جزئياً بالِشاعر الأميركي والت ويتمان، احتفت بالصخب المدوّي للعصر الحديث. لكن شعاره كان دائماً وما زال «أشعر بكل شيء، بكل طريقة». كان دي كامبوس الأكثر غزارة وتلاعباً بين الأسماء التي كتب من خلالها بيسوا، إضافة الى أنه اتخذ مواقف في المقابلات والخطابات تعارض تصريحات بيسوا في مقالات المجلات...في سنة ظهور الأسماء المستعارة التي ذكرناها أعلاه، ظل بيسوا يعتبر «كتاب اللاطمأنينة» كتابه الخاص، يتضح ذلك من خلال رسائله الى الشاعر أزريانو آرماندو كورتس، التي تدل على نفسيته المأزومة واشتغاله على ما أسماه «الوضع الراهن للاكينونة» ذلك الوضع الذي أجبره على الاهتمام كثيراً ومن دون رغبة في الكتاب، لكن كل شيء كان عبارة عن «مقاطع، مقاطع، مقاطع» بحسب قوله. شخصيّة جديدةلم يتوقف بيسوا عن كتابة الشذرات والمقاطع تلو الأخرى. ويبدو أنه خلال عام 1929 استعاد حماسته لمواصلة الكتابة بإيقاع أكثر كثافة وغزارة. واختلق أيضاً شخصية برنارد سوارش الذي تسبب له في مشاكل وتعقيدات كثيرة في ما يخص نوعية العلاقة القائمة بينهما، هل هو أنا آخر له، أم مجرد شخصية أدبية، وكذلك في ما يتعلق بالأسلوب وطريقة الكتابة. في هذا المجال يوضح الناقد أنخيل كريسبو أن شخصية سوارش اخترعها بيسوا في أيامه الأخيرة، فالإشارات والشذرات المتصلة في مبنى شارع Los Doradores أو بالموظف برنارد سوارش تبدو مكتوبة بالأسلوب الأنضج والأكثر تطوراً، «ما يسمح بالتفكير، من دون أي خوف من الوقوع في الخطأ، بأنها كُتبت خلال العقد الأخير من حياة بيسوا».من الكتابحديث النثر أفضّل النثر على الشعر، كشكل من أشكال الفن لسببين، الأول شخصي خاص وهو أنني غير قادر على الاختيار، إذن فأنا عاجز عن كتابة الشعر، السبب الثاني عام، وهو ليس، أعتقد ذلك حقاً، ظلاً أو قناعاً، إنه يمس المفهوم الخاص لقيمة الفن بكاملها. أعتبر الشعر شيئاً وسيطاً، خطوة من الموسيقى باتجاه النثر. الشعر، مثل الموسيقى، محكوم بقوانين إيقاعية محدّدة، وحتى لو لم تكن من نمط القوانين الصارمة للشعر المنظوم، فهي قائمة، مع ذلك كدفاعات، كإكراهات كأجهزة أوتوماتيكية للضغط والعقاب. في النثر نحن نتحدث أحراراً، بإمكاننا أن نضمن إيقاعات شعرية، وأن نوجد خارجها، مع ذلك، إن تسرب إيقاع شعري معين بصفة عرضية الى النثر لا يعوق النثر، لكن تسرّب إيقاع نثري عرضاً الى الشعر يعوق الشعر. الفن كله متضمن في النثر، من جهة لأنه في الكلمة الحرة يتركز العالم بكامله. ومن جهة ثانية لأنه في الكلمة الحرة توجد الإمكانية الكاملة كي نعبر عن العالم ونفكر فيه في آن، في النثر نمنحه كل شيء، بواسطة التحويل، نمنحه اللون والشكل اللذين ليس بمقدور الرسم منحه إياهما إلا على نحو مباشر. ومن دون أي بعد حميم، نمنحه الإيقاع الذي لا تمنحه الموسيقى إلا مباشرة أيضاً، ومن دون شكل مجسد، ومجرداً من ذلك الجسد الثاني الذي هو الفكرة ونمنحه البنية التي إذا كان على المعماري أن يشكلها من مواد صلبة، معطاة وخارجية فإننا نصنعها من إيقاعات وترديدات من متتاليات وانسيابات ثم نمنحه الواقعية التي على المثال أن يخلفها في العالم بلا ليونة ولا استحالة وأخيراً نمنحه الشعر، الشعر الذي دور الشارع فيه شبيه بدور المبتدىء في محفل سري، هو عبد، وإن طوعاً، لمقامات وطقوس معينة. إنني على يقين من أنه، في عالم متحضر تماماً، لن يوجد فن آخر غير النثر.
توابل - ثقافات
فرناندو بيسوا في كتاب اللاطمأنينة... لا واقعيّة الواقع
23-12-2008