يحضر هذه الأيام ذكر فرانكلين روزفلت، الذي كان رئيساً للولايات المتحدة بين 1933 و1945، وهو الرئيس الأميركي الوحيد الذي انتخب لأكثر من فترتين حتى ذلك الوقت، بل لأربع فترات.

ولم يحظ روزفلت بذلك لشعبيته وحسب، ولا لأن الولايات المتحدة خاضت الحرب تحت قيادته. ربّما حدث ذلك لأنّه صاحب الحقوق الفكرية الأشهر لما أُطلق عليه اسم «الصفقة الجديدة».

Ad

ما يدفع بتلك التواريخ إلى الظهور مجدداً هو الأزمة المالية العالمية الراهنة، التي لم تتّضح كلّ اتجاهاتها بعد، إلاّ أن الحد الأدنى المتوقّع هو خسائر كبيرة متفرّقة جغرافياً، وحالة كساد اقتصادي لا نرى منه الآن إلاّ رأسه، ولا نعرف حجمه وامتداداته اللاحقة.

وبالأساس، خيّمت ذكرى الانهيار الهائل في الأسواق الأميركية عام 1930، وما تبعه من «الركود الكبير» آنئذٍ، على جميع المهتمين والمتابعين للأزمة التي تبلورت في الأشهر الأخيرة، مع خوف متفاوت في الحجم، لكنه شامل، ليس فقط لأنّ الناس قد تملّكتها طمأنينة طويلة، بل لأنّ الاقتصاد الدولي كلّه دخل خطوات ملموسة في أرض العولمة أو عولمة الأرض، وأصبح مفهوم «الدومينو» حاضراً في ذهن كثيرٍ من البشر، لا المختصين في عالم السياسة والاقتصاد وحدهم.

جاءت الإجراءات «الإسعافية» في الولايات المتحدة ثم أوروبا واليابان وغيرها، لتُذكّر بالسعي اللاهث عن حلٍّ ومنجاة في عام 1930 الأميركي، وانعقدت قمّة العشرين في واشنطن لتضع أساساً ملتبساً لـ«صفقة جديدة» معولمة هذه المرة، ومادام هذا الأساس لا يعدو البلاغة حتى الآن، ولم يتوصّل إلاّ إلى إغداق الوعود المواعيد في نيسان القادم، فلسنا قادرين على النوم بأمان، وسيتصاعد القلق اليومي الذي تبعثه الأخبار والمعاناة، مع القلق الأكبر من انهيارات أو ركود لا تحتمله بعض البلدان المسكينة.

لقد «تدخّلت الدولة» في إطار الصفقة الجديدة آنذاك، وتتدخل الآن، لكن التدخّل القديم احتاج إلى عامين من الدراسة والتخطيط، وإلى تشريعات كثيرة جديدة، وإلى تغييرات بنيوية مهمة في عمل المؤسسات.

في المئة يوم الأولى من رئاسة روزفلت، تأسست وكالات عديدة منها «إدارة العمل المدنية» لتقليص البطالة، و«إدارة الانتعاش الوطني» لإحياء عملية الإنتاج، و«هيئة تأمين الودائع الفدرالية» و«مجلس القطع والضمانات» لتنظيم المؤسسات المالية، و«إدارة الضبط الزراعية» لدعم الإنتاج الزراعي... كما تمّ إصدار الكثير من التشريعات المهمة.

كذلك تمّ إجراء تعديلات كبرى على سياسة الإنفاق الحكومي، بشكل يساعد المؤسسات القائمة ويشجّع على إنشاء غيرها، وتقلّصت البطالة خلال سنوات من حوالي 30% إلى أقل من 1% مع بداية الحرب، وحدث هجوم على سوق العمل شمل ربّات البيوت في منازلهن.

لا علاقة لذلك البتة بالفاشية كما قال البعض آنذاك، أو كما استعجل موسوليني حين افتخر بكونه سبق روزفلت بهذه السياسات، على طريقة بعض إعلاميي أنظمة موصوفة الآن.

فماذا حدث حتى الآن في حكومات العالم الأساسية، أو حكومته الافتراضية؟! تمّ إقرار التدخل، ورصد المليارات، ثمّ التأمت قمة العشرين وأكد قادتها عزمهم العمل على المدى القريب على تحفيز حاجات الاقتصاد، وتعهدوا بإطلاق معايير عدة، من بينها الاقتطاع من فوائد المصارف المركزية، وتوسيع دعم الدول التي تعاني تداعيات الأزمة، كما دعوا لاتخاذ تدابير سريعة تتعلق بمراقبة المؤسسات المالية واتخاذ إجراءات عاجلة من أجل ضمان شفافيتها ومصداقيتها، ووضع قائمة سوداء تشمل المؤسسات المالية التي تشكل أنشطتها خطرا على الاقتصاد العالمي.

هذا جيد، لكنه مؤقت وغير مضمون النتائج، فهم قد اختلفوا قبل المؤتمر بين من يريد خطوات ملموسة ومن يميل إلى البلاغة والألعاب السياسية المؤقتة، واتفقوا على تكليف وزراء المالية بوضع دراسات ومشاريع خطط حتى اجتماعهم في آخر إبريل القادم، ونحن العرب صرنا نرتجف من تشكيل اللجان وتسويد الورق و«تسويف» النصوص.

وعلى الرغم من الاتهامات المختلفة لروزفلت وخططه، من يساريين اعتبروها إحياءً للرأسمالية التي يجب أن تموت، ومحافظين اعتبروه شيوعياً، ثم استشهدوا على ذلك بسذاجته حين وثق بستالين في الحرب... على الرغم من ذلك لا بد من ذكر أن عهده قد أسس لتأسيس الأمم المتحدة، ولا بدّ الآن من تطوير هذه المنظمة وتعزيز دورها، وتطوير الديمقراطية الدولية، والالتفات إلى حالة الفقراء والدول الفقيرة، ليس لأسباب إنسانية فحسب، بل لأنها يمكن أن تهزّ العالم من حيث لا يتوقّع، ولأنه مهزوز بذاته.

قد يجد البعض في الكلام أعلاه تفاؤلاً مبطّناً بقدوم أوباما، ولا يمكن نفي ذلك بشكل قاطع، لكنّ مجريات الأمور، واختلاف الولايات المتحدة اليوم عنها منذ سبعين عاماً، لا يبشّر كثيراً!

* كاتب سوري