الفنانة الأميركية، الإيرانية الأصل، شيرين نشأت، التي تعمل من منطلق خلفيّتين ثقافيتين متفرّعتين تماماً، تركّز في الإطار البصري لمشروعاتها على تطورات الإسلام المعاصر الاجتماعية، تحديداً على واقع الحياة في إيران. وعلى رغم أنها تقدّم في أعمالها ظواهر ثقافية محددة، إلا أنها تنجح في التعبير بلغة عالمية، وتقدم في الوقت نفسه نظرة ثاقبة عن خبايا نماذج الإدراك «الغربية».

تركت شيرين إيران وهي في السابعة عشرة لدراسة الفنون الجميلة في الولايات المتحدة الأميركية. وخلال نظام الشاه رضا بهلوي لم يكن متوقعاً من أبوين عاديين إرسال أبنائهما إلى الغرب للتعلّم.

Ad

في عام 1990، عادت شيرين إلى إيران للمرة الأولى. كانت رحلة وجيزة إلى بلدها الذي تتذكره بالكاد. وكانت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران انتهت لتوّها، قاضية على الغالبية العظمى من الرجال. آنذاك سيطر مشهد المرأة التي ترتدي «الشادور» على المدينة، وارتدت المباني صور الشهداء. غيّرت الثورة الإسلامية البلاد تماماً، وجاء النظام الإسلامي ليحدد ملامح حياة الشعب، المأكل والمشرب والملبس... خلال تلك الفترة أصبح دخول الصحافيين الغربيين إلى البلاد أقرب إلى المستحيل، وكانت إيران مرتبطة بالأصولية والتطرّف والإرهاب.

بالنسبة إلى شيرين كان اللقاء مع هذا البلد الذي أسمته يوماً ما وطناً، سبباً في نقطة تحوّل فاصلة في حياتها، غيرت علاقتها بوطنها الحالي، أي الولايات المتحدة الأميركية.

في مجموعتها الفوتوغرافية الأولى «نساء الله» (1993-1997)، والتي يمكن وصفها كأيقونات، ركزت الفنانة على وضع المرأة الإيرانية التي عانت من مجتمعها في فترة الحرب العراقية – الإيرانية، موضحة أن المرأة ظُلمت باسم الدين ومورست عليها ضغوطات. لذا أحبت هذه الفنانة أن توصل كلماتها التالية من خلال الصور المعروضة، تقول: «البسي ثوب الحشمة المكسو الطويل المطرز بالأعمال المستحبة. حنّي يديك بالدعاء وارفعيهما إلى السماء كي يستجيب الله لك».

نجحت تلك المجموعة جداً في المعارض الغربية، لأن شيرين استفزّت بها مستويات استقبال مختلفة لدى الجمهور في الوقت نفسه. وما زال صدى عملها الأول يتردد في أعمال فنانين كثيرين منذ ذلك الوقت.

في تسعينات القرن الماضي، أصبحت الفنانة فجأة «الحصان الرابح» في سباق التعبير عن الجسد الشرقي المقيّد. فقد وجدت في جسد الأنثى المسلمة عرياً مضاداً، مستخرجاً من اللغة. كانت الأنوثة في صور شيرين تمحق ذاتها، في ذهابها إلى عري منافق، هدفه الإعلاء من شأن الفضيحة الإعلامية المتبناة من الغرب.

صورّت شيرين نفسها بالشادور وهي تمسك السلاح. حول هذه المسألة توضح: «ثمة تعايش غريب بين الأنوثة والعنف، فصوري تُظهر النساء كمحاربات مسلّحات، وفي الوقت نفسه بريئات وروحانيات. فهن يرتكبن جريمة بسبب حبهن الله، وهذا الإخلاص يجلب معه العنف». المحاربة التي ترتدي الشادور وتحمل الكلاشينكوف تجسد أيضاً العدائية ضد الغرب المتوارية خلف تسييس الإسلام. وفي فيلمها «نشوة»، وبطريقة مرمزة، تصوّر شيرين التناقض بين الرجل والمراة.

بعد انتخاب الرئيس خاتمي عام 1997 تغيرت الحياة في إيران، وحتى القوانين المتحكمة في ارتداء الشادور تغيّرت الآن بلا مبالاة. وكلما قصُرت أو ضاقت الملابس النسائية الإيرانية مليمتراً، اكتسبت المرأة الإيرانية أرضية أكبر في حق تقرير المصير. فالألوان تغلغلت في المدينة، ولعبة الستر أو الكشف، تزدهر، وأصبحت صناعة موضة ناشئة متخصصة في الحجاب والشادور.

منذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، تغيرت أمور كثيرة في أميركا أيضاً. واستجابت شيرين لتلك التغيّرات. وبوصفها فنانة واعية تلقت تعليماً تقليدياً، ووُضعت وسط المسار الغربي، أدّت دوراً كبيراً في الوساطة بين الثقافة الغربية والإيرانية أو الإسلامية. وكانت لها رؤية واضحة إلى أبعد الحدود لإمكانات كل مجتمع.

الأبيض ذكراً والأسود أنثى... مظهرية دراماتيكية احتلت معظم أعمالها، عبر مرجعية النص الكاليغرافي السحري أو الديني ومفعوله كـ{تابو» إقصائي يلامس سطح الجسد ويتجاوزه إلى محيطه المقموع. وهي كامرأة تحاول غزل خيوط الشمس دثاراً لجنسها في بيئة استلهمت عمق المشهدية الكهفية بتلاوين طبقاتها الجيولوجية ودرجات عتمتها. وفي جغرافيا لا تزال تستذكر إرث النور والظلمة منبتاً لاشتقاقات تفاصيل ثقافية اختلط فيها الخطاب الديني بالثقافي - الأسطوري الموروث والموسوم بدمغة الأصالة.

ثقافة شيرين نشأت لعب على الأبيض والأسود، أبيض الرجال وأسود النساء، وهذا ما يسميه النقاد ثقافة العزل، إذ يصبح المجتمع بين ضفّتين، بين خطّين يحتاجان من يخترقهما بألوان جديدة أو، ربما يحتاجان الى الرماد.