تحتفل الأوساط السينمائية بمرور مئة عام على ولادة المخرج البريطاني ديفيد لين (1908 -2008)، ومئة وعشرين عاما على ولادة لورنس العرب (1888-1935)، وخمسين عاما على نيل بوريس باسترناك جائزة نوبل عن روايته «دكتور زيفاكو» (1958)، وبين هذه الاحداث ثمة تقاطعات، فالمخرج لين قدم الى السينما فيلمين: الأول مستمد من شخصية لورنس العرب، والثاني مستوحى من رواية باسترناك، أدى دور البطولة فيهما الممثل المصري عمر الشريف (ميشال شلهوب سابقا).

Ad

ولد لين عام 1908 وتوفي في 16 ابريل (نيسان) 1991. في بداية حياته درس فن تحرير الأفلام وعمل مساعد مخرج، ولم يخرج سوى 16 فيلمًا. صار ابن المحاسب من كرويدون، وابن العائلة المتوسطة التي تنتمي الى طائفة الكويكرز المسيحية، من كبار المخرجين العالميين، وهو أمر مثير للانتباه في عائلة كانت تنظر الى السينما نظرة دونية وتعتبرها لاأخلاقية ووضيعة. بعدما حرم لين من التعليم الجامعي، وبعدما قال له والده: «كي أكون صريحا معك، أنت لا تستحق اي تعليم»، هرب من حياة الأرقام والمحاسبة الى حياة الصور.

في بداية تعرُّفه الى السينما، كان لين يرتاح في محطة فيكتوريا ويدخن السيكارة تلو الأخرى ليلاً بعد أن يدور على معظم دور السينما في لندن. عام 1926 عندما عاد الى المدرسة، كان على والدته أن تتحمل هوسه في صناعة أفلامه وتعليق النيغاتيف لينشف... لا ينتهي الحديث عن لين، تظل السينما التي قدمها حاضرة بصورها وتفاصيلها. أبدع خلال حياته السينمائية مجموعة من كلاسيكيات السينما العالمية من بينها «دكتور زيفاكو»، «لورنس العرب»، «ابنة رايان»، وهي روائع تمثل كل منها علامة مهمة في تاريخ السينما. سنقتصر في كلامنا حول فيلميه «لورنس العرب» و«دكتور زيفاكو».

يعتبر الأول أحد أشهر الأفلام التاريخية التي صنعت شهرة عمر الشريف. يتناول قصة السياسي والرحالة البريطاني لورنس (بيتر أوتول) في مضارب السياسة العربية. يظهر الفيلم معاناة لورنس في وضع متأزم بالإضافة إلى أزماته الشخصية واعتداء الأتراك عليه. بصرف النظر عن سياسة الفيلم المدافعة عن بريطانيا، يبقى عملاً مهماً من حيث سرده الحقبة التاريخية التي تقع أحداثه فيها وشفافيته الجمالية، ما جعل النقاد يطلقون عليه «صاحب أجمل صحراء صوّرت على الشاشة».

أما فيلم «دكتور زيفاكو» فيقدم قصة حب مفعمة بالرومانسية. تجري أحداثه عام 1917 ويدوّن لنا قصة الثورة الروسية من وجهة نظر تلك الشخصية المثقفة والمتعمقة في فهم النفس البشرية: الدكتور والشاعر يوري زيفاكو. بينما يتغير المشهد السياسي ويسقط نظام القياصرة الروس، تعكس علاقات دكتور زيفاكو الاضطراب السياسي الذي كان يضطرم في جميع الأوساط، نتيجة أحداث الثورة والحرب العالمية الأولى التي كانت تدور رحاها في تلك الفترة. لنقل إن فيلم لورنس العرب كان ايديولوجيا ضد المنطقة الشرق أوسطية، و«دكتور زيفاكو» أيديولوجيا ضد البلاشفة.

لورنس العرب

يبيِّن الحديث عن شخصية لورنس العرب فحوى الفيلم والهدف منه، فلورنس العرب شخصية معقّدة، وكتابه «أعمدة الحكمة السبعة» الذي وضعه بعد عودته من الصحراء العربية إلى إنكلترا هو الذي جلب له الشهرة وليست أفعاله الميدانية.

انقسم العشرات من الكتاب والباحثين حول هذه الشخصية، بين من يراه جاسوسا ذكيا إندسَّ بين العرب لأغراض استعمارية، وبين من اعتبره أسطورة انكليزية، وبين هؤلاء وأولئك، وقف فريق ثالث يحاول التوفيق بين الرأيين. حازت شخصية لورنس على تألق فريد نتيجة الجدل الذي قام حوله وما زال، وعلى حجم مشاركته في ثورة العرب الكبرى وأهميتها، والتي فجرها الهاشميون أثناء الحرب العالمية الأولى ضد السلطنة العثمانية. كذلك فإن الذين تناولوا شخصية لورنس من الغربيين أوصلوه الى الذروة واعتبروه أسطورة وثروة قومية ينتمي الى أمة غربية قضى على الخلافة الإسلامية، قسَّم المنطقة العربية وقدمها هدية للغرب.

أما الشرقيون الذين كتبوا عنه فحملوا في أذهانهم صورة المستعمر والجاسوس البريطاني ومقسِّم الأمة ومحطِّم دولة الخلافة الإسلامية وفاتح الشرق أمام المستعمرين البريطانيين والفرنسيين، فهو صورة من صور المستعمر. ظل اسم لورنس ينهض من النسيان كلما طرأ حادث سياسي إقليمي كبير على منطقة الشرق الأوسط. حوّله عشقه للصحراء العربية من طالب آثار في جامعة أكسفورد إلى عنصر فاعل في تشكيل الوضع السياسي النهائي لبلدانها الحديثة، إذ تعتبر خريطة لورنس التي عرضها المتحف الحربي البريطاني عام 2006 لمناسبة مرور سبعين عاماً على رحيله، بمثابة رقعة تاريخية لا يمل السياسيون من التأمل في خطوطها الجغرافية – السياسية، التي رسمت مصير المنطقة بعد انسحاب الأتراك منها، والممتدة من شمال سوريا والعراق الحاليين حتى السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية.

قبل لورنس، عمل كثر من الكتّاب الإنكليز في جهاز المخابرات البريطاني في الحربين الأولى والثانية للدفاع عن بلدهم، بيد أن لورنس برز من بينهم بمغامرته الكبيرة في محاربة الوجود العسكري العثماني في شبه الجزيرة، إلى جانب شخصيات عربية مرموقة مثل الشريف حسين بن علي وأولاده، الذين قادوا الثورة ضد السيطرة التركية التي استمرت أربعة قرون بذريعة الخلافة الإسلامية، حيث سوّغ بها الأتراك هيمنتهم الاستعمارية على العرب باسم الدين.

لم تنقطع شهرة لورنس ولم يخفت اهتمام الرأي العام بكتبه أو بمغامرته في الصحراء العربية، لكنه أمضى حياته الباقية في إنكلترا منطوياً على نفسه، تنتابه حالات شديدة من الكآبة، ثم جاء حادث اصطدام دراجته البخارية الروز رويس الذي أودى بحياته ليكمّل الملامح الأخيرة لصورة الأسطورة عن «لورنس العرب».

دكتور زيفاغو

كانت شخصية لورنس إيماءً الى أحوال زمن الانتداب الغربي على العالم العربي، اما رواية «دكتور زيفاكو» لباسترناك فهي إشارة الى أهوال زمن الحرب الباردة الثقافية بين المعسكر الاشتراكي والمعسكر الغربي، فبعدما يقرب من خمسين عاما من حصول باسترناك على جائزة نوبل في الآداب عن مجمل أعماله التي توجها بروايته المشهورة، ما زالت الألغاز والمشاحنات تكتنف هذا الروائي، خصوصا أن أدبه كان مادة للحرب الباردة الثقافية التي ألقت بظلالها على باسترناك نفسه. تسربت حديثا بعض الوثائق الخاصة بوكالة الاستخبارات الأميركية وجهاز الاستخبارات البريطاني، تؤكد أن حصول الروائي الروسي على هذه الجائزة الرفيعة لم يكن يهدف إلا إلى فضح الكرملين الذي سبق أن منع نشر الرواية المذكورة. يكشف الباحث ايف تولستوي في كتابه «الرواية المغسولة» عن محتوى خطاب كتبه عميل سابق في الـ«سي أي إيه» يصف فيه تفاصيل العملية التي كانت الوكالة تعتزم تنفيذها لنشر الكتاب وفضح الكرملين، يقول إن عناصر من الـ«سي أي إيه» سرقوا _ بمساعدة عملاء آخرين من الاستخبارات البريطانية _ إحدى تلك النسخ المشار إليها من على متن الطائرة التي كان يسافر عليها أحد الأشخاص المكلفين من قبل الكاتب الروسي بنقل نسخة من روايته إلى أحد الأصدقاء في الغرب. يشير الخطاب إلى أن الطائرة أجبرت على التوقف في مالطا، وبينما كان الركاب ينتظرون في المطار لمدة زادت على ساعتين، أخرج عملاء الـ«سي آي إيه» النسخة من حقيبة الراكب المذكور ونجحوا في تصويرها كاملة ثم أعادوها إلى الحقيبة من دون ان يكتشف أحد الأمر. على إثر نجاح الجزء الأول من العملية، مضى الجهاز الاستخباراتي الأول في العالم قدمًا في تنفيذ الشق الثاني حيث تولت الـ«سي آي إيه» مهمة نشر الرواية باللغة الروسية في أوروبا والولايات المتحدة على نحو متزامن.

عندما حازت الرواية جائزة نوبل للآداب عام 1958، استشاط السوفيات غضباً واعتبروا الأمر استفزازاً غربياً مدروساً. أرغم الاتحاد السوفياتي باسترناك على رفض الجائزة وعُزل الكاتب حتى توفي عام 1960 عن عمر سبعين سنة. لنقل ونكرر أن سيرة باسترناك هي مرآة للحرب الباردة الثقافية، فلغاية عام 1958 نجا من الاضطهاد الذي لحق بكثر من الكتاب الروس، فاز بجائزة نوبل للأدب فبدأت على الفور حملة دعائية حكومية ضده في الاتحاد السوفياتي(السابق) حيث مُنعت مطبوعاته المترجمة وحُرم من قوت عيشه. كان فقيراً وغير متأكد من قدرته على إسناد استقلاليته ومطاردا بشكل دائم من جانب جهاز الاستخبارات الروسي الـ «كي جي بي»، ومهددا بالطرد خارج روسيا. حتى أنه بعد وفاته عام 1960 أمر الكرملين باعتقال حبيبته أولغا ايفانسكافا، ملهمته لشخصية لارا، ووجهت إليها وإلى ابنتها اتهامات تتعلق بحصولهما بشكل غير قانوني على حقوق نشر رواية «دكتور زيفاغو» في الخارج. حكم عليها بثماني سنوات من العمل الإجباري في سيبيريا، فيما أدينت ابنتها بثلاث سنوات. إلا أن الضغوط وحملات الاحتجاج التي انطلقت على الصعيد الدولي ساعدت في الإفراج عنهما بعد قضاء نصف المدة.

عمر الشريف

اللافت أن عمر الشريف، كان البطل الذي ادى دور لورنس العرب وبطل فيلم «دكتور زيفاكو» أيضاً، يقول عن تجربته مع لين: «كانت تجربتي معه قوية جدا، خصوصاً حينما أسند إلي دور يوري زيفاكو، الطبيب الذي يصدم في تجربة الثورة الاشتراكية، لكن تبقى تجربتي الأولى في السينما العالمية على يديه في فيلم «لورنس العرب»، اختار لين أن نعيش في هذا الفيلم حياة البدو، بكل ما فيها من قسوة. كنا نعمل 28 يوما في الشهر، وفي اليوم الثامن والعشرين، كنا نسافر إلى بيروت في إجازة لمدة 48 ساعة، يقضيها كل منا بالطريقة التي تناسبه، اعتدنا أنا وبتر اوتول على قضاء إجازتنا في بيروت، وكنا نبحث عن ملهى ليلي لكسر القيود وهذا لا يمكن نسيانه أبدا».

يعترف الشريف دائماً أن لين هو الذي أطلقه في سماء ما يعرف بـ «العالمية»، لكنه يصفه بأنه «كان رجلاً شديد القسوة، غارقاً في أناينته، لا يرحم أحداً». ذكرت هذه العبارات في مقال نشرته صحيفة «دايلي تلغراف» أخيراً، لمناسبة الاحتفال بمئوية لين، إلا أن الشريف تفوَّه بها حين كان لين يصوِّر فيلم «دكتور زيفاكو» أواسط ستينات القرن الماضي، وخلال التصوير. لكن النسيان طواها بعد ذلك حتى جرى التذكير بها اليوم. الواقع أن الذين عرفوا لين من خلال السينما يستغربون هذا الكلام، أما الذين عرفوه عن كثب فلا يستغربون.