تشهد الأغنية الدينية صعوداً ملحوظاً في الشهر الفضيل، خصوصاً أن غالبية المغنين صاروا يتنافسون بشدة على ساحتها في الأعوام الأخيرة بشكل أشبه بالظاهرة، كما وصفها كثير من النقاد الذين أدهشهم الجوء إلى الغناء الديني، وتساءلوا: هل الأمر صدفة؟ أم محاولة للتقرب من الجمهور بصور مختلفة، خصوصاً أنه موسم خاص لمثل تلك الأغنيات؟

Ad

اعتمدت الأغنية الدينية غالباً على المدائح النبوية، في هذا المجال يشير الناقد محمد صلاح الدين ويعود بالذاكرة إلى بداية القرن الماضي الذي شهد انطلاقة الأغنية الدينية الملحنة على يد أحد رواد التلحين الشيخ أبو العلا محمد، فلحَّن القصائد الدينية التي غنتها أم كلثوم في بدايتها، تلاه الشيخ زكريا أحمد الذي لحن لنفسه قصيدة «ابن الفارض» وبعض قصائد شوقي وأدخل عليه العود والكمان والقانون والناي، وكانت أبرز قصيدة لحنها هي «يا نبياً سمت به العلياء»، ثم لحن الابتهالات الدينية للمطرب ابراهيم حمودة وشافية أحمد وفتحية أحمد وغيرهم.

في كتابه «الأغاني في الأفلام»، يؤكد المؤرخ الفني يعقوب وهبي أن أم كلثوم، كانت أول من تجرأ على استخدام التخت الشرقي في الغناء الديني بالاتفاق مع محمد القصبجي عام 1926، حين قدمت أغنية «نورت يا رمضان»، أول أغنية شعبية دينية سجلت على أسطوانات، ما دفع السنباطي إلى تلحين أول أغنية دينية في مديح النبي «امتى نعود يا نبي» فلاقت نجاحاً كبيراً، والمغني أحمد عبد القادر إلى تقديم مجموعة أغاني أشهرها «قيام الحجيج»، «سلوا قلبي»، «نهج البردة»، «ولد الهدى»، «إلى عرفات» بالإضافة إلى قصيدته الشهيرة «حديث الروح».

كذلك غنت أسمهان أغنية «عليك صلاة الله وسلامه»، من ألحان فريد الأطرش، ولحن زكريا أحمد «القلب يعشق كل جميل» لأم كلثوم و{الله أحد» لليلى مراد.

مكانة

في السنوات الأخيرة، بدأت الأغاني الدينية تستعيد قوتها ومكانتها حتى بعد الشهر الفضيل، وهو ما فسره البعض بأنه ليس إلا «موضة»، على حد تعبير الموسيقار هاني مهنى الذي أشار إلى أنها موضة مربحة، خصوصاً خلال مناسبة دينية مميزة مثل شهر رمضان، أو أزمة تمر بها الأمة مثل قضية التطاول على الرسول الكريم صلوات الله عليه.

يربط مهنى انتشار الأغاني الرمضانية بكثرة برغبة بعض نجوم الغناء في رسم صورة معينة لأنفسهم بين المحيطين بهم لمحو صور أخرى لا يحبذون تداولها، ويؤكد أنه على الرغم من ذلك ليست موضة سيئة، «يجب أن نشجعها لأنها تقدم غناءً هادفاً له قاعدة جماهيرية عريضة تشجعه، وهو أفضل من ألوان أخرى لوَّثت سماء الفن الجميل، ولعلها فرصة لننظف آذاننا مما نسمعه راهناً من غناء يفسد الذوق والوجدان».

لا يمكن تعميم كلام مهنى على كل من قدم الأغنية الدينية، سواء كموضة أو رغبة في التطهر أو حتى من باب الفرقعة الإعلامية، مثلا لم يسعَ الفنان محمد منير، من خلال تجربته المتميزة في ألبومه «مدد يا رسول الله»، إلى فرقعة إعلامية، إنما بدا صادقاً وواعياً، ما ساهم في نجاح تجربته التي وصفها منير نفسه حينذاك بأنها تجربة ضرورية وملحة على أكثر من مستوى، بدءا برغبته في تقديم أغنيات تتسم بالنزعة الصوفية، وهي أمنية قديمة، ما يساعده في تجديد مشروعه الفني، والأهم، كما أكد، تساهم في نشر رسالة الإسلام الحقيقية مادة جذابة يستسيغها الجمهور من دون تعقيد، وتكشف عن الصورة الأصيلة للإسلام التي حاول كثيرون تشويهها في السنوات الأخيرة لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول).

وإذا راعى منير في تجربة الغناء الديني التركيز على أن الدين الإسلامي يدعو إلى التسامح والسلام، فهل سار أقرانه من نجوم الغناء على هذا الدرب؟

نجح بعضهم في أن تكون له بصمة مميزة، ربما أبرزهم الفنان هشام عباس الذي قدم «أسماء الله الحسنى» وصارت الأشهر عند الجمهور المصري، وتصدرت الحفلات و المناسبات المفرحة، ما شجعه على تقديم مجموعة من الأغنيات الدينية والأدعية.

يقول عباس: «كانت تجربتي في الغناء الديني نتاجاً متوقعاً لطبيعتي الصوفية التي نشأت عليها في عائلتي المتديِّنة، كان جدي لوالدي شيخا جليلا من شيوخ الأزهر الشريف، ويعشق جميع أفراد عائلتي الغناء الديني تحديداً، لهذا لم أعتبر تقديمي هذا اللون غريبا أو في إطار الموضة، إنما تلبية لرغبة ظلت تراودني طويلا».

انحلال أخلاقي

إنضم المغني إيهاب توفيق إلى قافلة الغناء الديني وقدم بعض الأدعية والأغنيات الدينية، معتبراً أنها ضرورية راهناً في محاولة للخروج بالأغنية العربية من نهر الانحلال الأخلاقي الذي سقطت فيه أخيراً.

يؤكد توفيق أن جيله ليس مسؤولا عن موجة الغناء الهابط والعري السائد، مشيراً إلى أن ثمة عناصر أخرى ساهمت في ذلك لا علاقة لها بالفنانين أنفسهم، وإنما تتعلق بالباحثين عن الربح المادي أكثر من الفن الجيد، لذا يحاول هؤلاء إفساد الذوق العام وتحويل الصورة لدى الأجيال الجديدة من رسالة هادفة ونبيلة إلى عري وابتذال.

ضمت تجربة الغناء الديني في السنوات الأخيرة أسماء مثل هاني شاكر،علي الحجار، محمد ثروت، إيمان البحر درويش، مدحت صالح، عمرو دياب، محمد فؤاد، لطيفة، مصطفى قمر، تامر حسني، حمادة هلال وشعبان عبد الرحيم.

عزا النقاد نجاح تلك الأغاني إلى النزعة الدينية العالية في مصر خصوصاً والعالم العربي عموماً، يقول الناقد طارق الشناوي مؤكداً أن الانحياز إلى الغناء الديني لا يخص الأجيال الجديدة فحسب، بدليل أن رواد الغناء العربي خاضوا أيضا تجاربهم الخاصة في المجال، بدءا من سيد درويش وعبد الوهاب وأم كلثوم، مرورا بعبد الحليم حافظ ومحمد فوزي وفايزة أحمد ونجاة.

يضيف الشناوي: «يبدو أن الاتجاه إلى الغناء الديني سمة تميزت بها العصور على اختلافها، مهما كانت الأسباب التي دفعت نجوم الطرب الحديث إليها، يبدو أمراً صحياً محققاً لرغبات الجميع، سواء مطربين أو جماهير، لإشباع النزعة الدينية أو الصوفية في الوجدان».

رسالة روحانيَّة

في السياق ذاته، يقول المغني إيمان البحر درويش: «الأغنية الدينية هي موروث تراثي إسلامي وحينما ينشدها مغن يشعر بارتياح روحاني لا يوصف، ويجب أن تحمل بين طياتها معنى ورسالة، أي ألا تكون مجرد لون جديد يلهث وراءه المغني ليثبت أنه متنوع ويجيد الألوان الغنائية كافة، غير أن البعض من نجوم الغناء يتخوف أحيانا من تقديم تلك الأغنيات خشية أن يروج لاعتزاله كما حدث معي».

يؤكد درويش أن الفن في النهاية رسالة هدفها إيصال المشاعر الإيجابية الى الجماهير، بعيداً عن إثارة الغرائز، وهو ما يتحقق عبر الغناء الديني الذي يؤدي دوراً إيجابياً لا يمكن إنكاره.