كثيرًا ما نقرأ ترجمات متفرقة للشاعر المصري اليهودي الذي يكتب بالفرنسية ادمون جابيس (1912 – 1991)، لكن لم يُترجم له أي كتاب إلى العربية حتى الآن على الرغم من أهميته ودوره ولغته، وهو من ضمن مجموعة من الشعراء الفرنكوفونيين المصريين الذين لمعوا بعد الحرب العالمية الثانية وخلال النصف الثاني من القرن الماضي قبل أن تهمّشهم الايديولوجيا الناصرية ومن بعدها الأصولية. لعل من يقرأ شعر جويس منصور، جورج حنين، ماري كفاديا، حورس شنودة، يعرف قيمة مرحلة هؤلاء، ويتأمل زمن الطبقة الوسطى في الاسكندرية، المفارقة أن ثمة فريقاً كبيراً من الشعراء المصريين كتبوا بالفرنسية، لكن قلة أُعيد الاعتبار إليها، واذا كان بعض دور النشر ترجم كتب جويس منصور وجورج حنين، إلا أن الشاعر أحمد راسم ما زال مجهولا بالنسبة إلى القارئ العربي، بينما ترجمت بعض روايات ألبير قصيري بطريقة سيئة. ينطبق الأمر نفسه على الشاعر جابيس الذي كثيرًا ما نقرأ عنه في بعض المقالات باعتباره يهوديًّا قبل أن يكون شاعرًا لامعًا، والحال أن قلة من الشعراء الفرنسيين المعاصرين حظيت بالاهتمام الذي حظي به جابيس من قبل أكبر مفكّري زمننا والنقاد. وضع جاك درّيدا وموريس بلانشو أبحاثاً عدة حوله واعتبر رينيه شار كتبه كأعمالٍ «لا معادل لها في عصرنا» وانحنى ماكس جاكوب، بول إيلوار، هنري ميشو وغيرهم... أمام عبقريته. مع ذلك، بقيت سيرة حياته غير متوافرة إلى اليوم إلا بالفرنسية! يُعرف جابيس بأنه شاعر اللاانتماء وشاعر التيه والفراغ. وصفه النقاد بأنه «شاعر المنفى» أيضاً، ثمة مكانان حقيقيان يعودان دومًا في كتبه، هما الصحراء ومصر. عاش طيلة حياته بعيدًا عن وسائل الإعلام، ولم يجر سوى مقابلات نادرة مع الصحافة، اشترط فيها أن تكون مكتوبة بخط اليد.نزحت أسرة جابيس اليهودية من أسبانيا إلى مصر، قبل ثلاثمائة عام. كانت تربيته فرنسية: درس بداية في مدرسة الفرير (كوليج سان جان باتيست) ثم مدرسة الليسيه (التابعة للبعثة التعليمية العلمانية الفرنسية). في أواخر العشرينات، نشر بعض مقالاته ضد موسوليني ونزعته الفاشية في صحيفة «لا ليبرتيه» (الحرية). في تعرضه للحركة السريالية المصرية، يؤكد جان - جاك لوتي : «من بين خبرات تلك الحركة الشابة الناهضة، يذكر اسم إدمون جابيس في أفضل مكانة، فهو يوضح إلى من ضللتهم القصيدة تناقض مانفستو الحلم الخالد تجاه اليقظة، بالإضافة إلى أفراحها وخيباتها. في قصائده خفة شفاهية وألاعيب طفولية، فيما خلف ذلك رغبة هائلة في التحرر من القيود العروضية كافة». أوهام عاطفيةكان جابيس الى جانب السرياليين لكنه لم يلتحق في صفوفهم، اكتشف الشعر في الثالثة عشرة من عمره، لدى قراءته ألفرد دو موسيه وألفرد دو فينيي وبول فرلين، ثم بودلير ورامبو ومالارميه. مع أن نصوصه الأولى تعود الى فترة المراهقة تلك، لكن قدره ككاتب سيُحسم بين عامَي 1930 و1932، مع إصداره ثلاثة كتب: «أوهام عاطفية»، «أنا في انتظارك» و»أمي». منذ ذلك الحين، حاول توزيع وقته على الأصدقاء والقراءة والنشاطات الثقافية. أما لقاؤه بماكس جاكوب فتم في باريس عام 1935، بسرعة أصبح هذا الشاعر الفرنسي مرشده الروحي الذي «علّمني أن أكون ذاتي، أي مختلفًا». قرأ له بعض نصوصه الشعرية، فما كان من جاكوب إلا أن أرشده إلى متابعة نتاج شعراء الفرنسية المعاصرين ودفعه إلى مصادقة بول إيلوار وأندريه بروتون ورينه شار، ونصحه بعدم الالتفات إلى كتاباته القديمة. خلال تلك الفترة، التقى جابيس الناشر الفرنسي بيار سيغيرس الذي أصدر له ديوان «أناشيد لوجبة الغول»، واستقبل في القاهرة فيليب سوبو وهنري ميشو وروجيه كايوا الذين ستربطهم به علاقات وثيقة وثابتة.بعد تأميم قناة السويس 1956، غادر الشاعر وطنه مرغماً في (يونيو) حزيران 1957 الى فرنسا، قال: «سافرت إلى فرنسا لأنها بلد اللغة التي أتقنها»، وأضاف في حديث صحافي: «تركت بلدي، وكان علي أن أبحث عن صحراء أخرى، غير أنني لم أجد صحرائي أبداً. الصحراء أملي الكبير في حياتي كلها. في القاهرة، كنت أسير مسافات طويلة في الصحراء، ولوقت لا أعرف له أي حد. أعلاي السماء زرقاء وأمامي الصحراء ممتدة. هناك في الصحراء يبدو الهدوء بلا نهاية، والصمت ملهماً، وقد ساعداني في الكتابة، وبعدما تركت مصر تقت طويلاً إلى تلك المشاعر والحالات» (مجلة لا كسبرسوس الإيطالية، 15 ديسمبر (كانون الثاني) 1985. نزعة مصريةهاجر جابيس هرباً من «تهمة»، فهو لم ينتمِ الى الطائفة اليهودية ولم يلتزم تعاليم «التلمود» ولم يمارس الشعائر أو الطقوس اليهودية. خلافاً ليهود عرب كثر لم يلجأ الى اسرائيل، بل أصرّ على نزعته المصرية التي حملها معه الى فرنسا وجعلته يشعر هناك بغربته عن الفرنسيين مواطنيه باللغة فحسب.يعترف جابيس، الذي سمي «السريالي الشرقي»، بغربته الفرنسية قائلاً: «كان انتمائي الى بودلير ومالارمه والسورياليين في القاهرة مرجعي أكثر من أي أمر آخر. في باريس ارتفعت مصر وصحراؤها وإيقاع الحياة فيها فجأة كجدار بيني وبين هؤلاء الشعراء». مثل مالارمي، اعتبر جابيس أن العالم لا بد من أن يفضي الى كتاب. لكن، بنظره، على هذا الكتاب أولاً أن يسمح بجعل العالم مرئياً. بعدما حصل على الجنسية الفرنسية عام 1967، غاب جابيس مصرياً وعربياً ولم يذكر اسمه الا نادراً في سياق الكلام عن السرياليين المصريين وعن الشاعر جورج حنين الذي كان صديقه، وقد أسسا معاً المجلة الشهيرة «حصة الرمل» التي استقطبت أقلام المصريين الفرنكوفونيين وبعض الفرنسيين. أما في فرنسا فلمع اسمه وتوالى نشر أعماله الشعرية والنثرية وترجمت نصوص كثيرة له الى لغات عدة. «كتاب»عام 1987، أصدر جابيس «كتاب الهوامش» يعرض فيه ذلك الواقع المُعاش بحدة: «أن نكتب، هو أن نخطّ خطوة الآخر الذي هو نحن، قبل رسم ألفاظها»، أن نضيّع طريقنا، الطريق المعتادة، للسير على طرقات أكثر سرّية وغموضٍ، إنه التيه كفضيلة وكمغامرة لا نهاية لها، يغادر الشاعر بواسطتها دنياه ويتقدّم «داخل الظلمة والفراغ وعدم المعرفة» لقبول العالم كما هو ومواجهة وقائعه.لئن بدت مفردة «كتاب» حاضرة بشدة في نصوص جابيس، لا تقلّ مفردة «صحراء» عنها حضوراً، وقد تدل عليها مفردات أخرى تنتمي الى حقلها مثل الرمل والغبار والسراب وسواها. تجسد الصحراء الفضاء غير المغلق ابداً، حيث الكلمة تُشرَّع على جذورها وعلى الصمت الذي تحمله في قرارها. يقول جابيس: «أن نتكلم هو أن نتكئ أولاً على استعارة الصحراء، أن نُشغل بياضاً، فضاء من الغبار او الرماد، حيث تهبّ الكلمة المنتصرة نفسها في عريها المتحرّر». يكتب جابيس عن الصحراء: «كانت الصحراء بالنسبة إلي بمثابة المكان المفضّل حيث أزول شخصياً. غالباً ما يحصل أن أبقى وحيداً في الصحراء طوال ثمان وأربعين ساعة. لم أكن أجلب معي كتباً، بل غطاءً بسيطاً. في مثل هذا الصمت كنتُ أدرك مجاورة الموت في طريقة يبدو من الصعب أن تدوم أكثر». إنها الصحراء، حقيقة واستعارة في آن، واقعاً ومجازاً، جسداً وروحاً، تأملاً وإشراقاً.مؤلفات جايبس طبع بالتعاون مع «جماعة الصداقة الفرنسية» التي أسسها عام 1944 ديوانيه «حصة الرمال» و{طريق الينابيع» على نفقته الخاصة. في العام 1947، نشر ديوان «أغاني لوجبة الغول» (1943 -1945). منذ ذلك الحين ساهم مع جورج حنين في أنشطة سريالية عدة: إصدار مجلة، معارض فنية... عام 1952، تقلد وسام الشرف الفرنسي اعترافا بدوره الثقافي ومكانته الأدبية الراقية. أصدر: «أشيد مثواي» عام 1959، بعدما استقر نهائياً في باريس. من ثم كتب قصيدة مطولة: «سرد»، جمعها وقصائد أخرى في ديوان واحد: «الذاكرة واليد» (1974 - 1979)، ثم راح يعيد إصدار دواوينه، حتى صدرت أعماله الشعرية الكاملة في ديوان واحد: «العتبة – الرمل» (1943 - 1988 )، عن دار غاليمار، بعد وفاته بأشهر قليلة. من الكتابات النثرية التي أصدرها: «كتاب الأسئلة» (٧ أجزاء)، «كتاب التشابه» (٣ أجزاء)، «كتاب الحـدود» (٤ أجزاء)، «غريب تحت إبطه» (من القطع الصغير).
توابل - ثقافات
ادمون جابيس... سرياليّ شرقيّ لم يُترجم الى العربيّة!
11-09-2008