اهتم المسلمون منذ عهد معاوية بن أبي سفيان بأمر الجزر الواقعة في البحر المتوسط، ولا شك في أنهم أدركوا أهميتها الاستراتيجية كقواعد للتموين في البحر الذي كان يشهد صراعًا مريرًا للسيطرة عليه في ما بين الإمبراطورية البيزنطية والدولة الإسلامية الناشئة.

Ad

كانت جزيرة قبرص، القريبة من الساحل الشامي، أول هدف لمعاوية وهو والٍ على الشام من لدن الخليفة عثمان بن عفان، وقد فتحها عام 28هـ (338م) ثم ارتد أهلها وكاتبو البيزنطيين، فعاد إلى غزو قبرص عام ٣٣هـ (653م) وأسكنها المسلمين وترك فيها حامية عسكرية لتكون أول جزيرة إسلامية في حوض المتوسط.

بين عامي 54هـ و61هـ (764 - 681م) أتم معاوية إخضاع جزيرتي أرواد ورودس، وكان الفضل في إقرار السيطرة الإسلامية على جزر شرقي المتوسط للقائد البحري الأموي (جنادة بن أبي أمية الأزدي الذي اتخذ أرواد قاعدة لأعماله البحرية وأنشأ فيها دار صناعة بحرية).

الحقيقة أن الاهتمام الذي أبداه الأمويون بالبحر الأبيض لم يقيض له أن يستمر في عهد الخلافة العباسية التي غلب عليها التوجه نحو آسيا، ومن ثم اضطلع المغاربة وأهل الأندلس بما كان الأمويون بدأوه وتمموا السيطرة على جزر البحر الأبيض، لا سيما في منطقتي الوسط والغرب، واعتنت المصادر الأوروبية، خصوصا الكنيسة، بذكر تلك الحوادث التي تركت آثارها في الحياة في أوروبا نظرا الى الترويع وأعمال السلب والنهب والتدمير التي صاحبتها.

عام 812 م، هاجر المغاربة الى المبيدوزا وبوتزا وإيشيا على الشواطئ الإيطالية، ثم شاركوا أهل صقلية سنة ٦٣٨هـ في مواجهة برنديزي واحتلالها وملكوها لمدة ثلاثين سنة كاملة بدءا من عام 840م إلى 870م. من برنديزي، حاول المغاربة والصقليون الاستيلاء على نابولي عام 836م، وفي العام التالي اجتاحوا إقليم قلورية كله وخربوا مدينة كابو عام 840م ثم احتلوا بعد ذلك مدينة بنفنتو وحكموها خمس سنوات (42 - 847م)، وما لبثوا أن استعادوا بعد فترة قصيرة واستولوا على تارنت وحكموها أربعين عاما (840 - 880م) واحتلوا أيضا باري لمدة ثلاثة عقود كاملة (41 - 871م).

اتخذ المسلمون تلك المدن الواقعة على الشاطئ الإيطالي قواعد لهجماتهم التي غزوا في إحداها روما، أما جزر البليار، ميورقة ويابسة والمعروفة بالجزائر الشرقية، فقد فتحها المسلمون منذ وقت مبكر، وكانت خاضعة لملوك الفرنجة، وبحسب حوليات مملكة الفرنجة فإن جزيرتي ميورقة ومنورقة تعرضتا لهجمات المسلمين للمرة الأولى عام 798م، وبينما تشير المصادر العربية إلى أن والي الأندلس عبدالعزيز بن موسى بن نصير افتتحها بعيد فتح الأندلس أو بالأدق قبل مقتله عام98هـ، لكن لا يوجد من الشواهد التاريخية ما يؤكد مثل تلك الإشارات.

الراجح أن جماعات من المسلمين نزلت تلك الجزر، بغرض التجارة، وسكنتها تدريجيا حتى هيمنت على الأمور فيها، وقد قامت ثورة في تلك الجزر ضد المسلمين في سنوات متباعدة من النصف الأول من القرن التاسع الميلادي (834 - 848 - 849م)، فأرسل الأمير الأموي عبدالرحمن الأوسط أسطولا أندلسيّا من ثلاثين قطعة أخمد الثورة أو بالأحرى أقر النظام والأمن في الجزر.

لكن الأمر احتاج إلى غزو الجزر لافتتاحها وقد تم ذلك في عهد الأمير عبدالله بن محمد، سابع أمراء الأمويين بالأندلس، وتولى قيادة جيش الفتح أندلسي يعرف باسم عصام الخولاني عام 290هـ (٩٠٩م)، وكان رجال الأسطول وجنود الفتح من المطوعة والمرابطة الذين نذروا أنفسهم للجهاد. أتم الخولاني فتح الجزر الثلاث وبنى فيها المساجد وأصبح واليا عليها من قبل الأمير عبدالله بن محمد. بعد وفاته، تولى الولاية ابنه عبدالله بن عصام وأقره الخليفة الأموي عبدالرحمن الناصر في حكمها. ظل عبدالله بن عصام يحكم الجزائر الشرقية حتى عام 350هـ (961م) حين اعتزل الحكم وغادرها متوجّها إلى مكة حيث قضى بقية حياته ناسكًا متعبدًا.

ظلت جزر البليار تحت طاعة الأمويين، فلما انهارت دولة الخلافة في قرطبة وتفرق أمر الأندلس بين ملوك الطوائف، استقلت جماعة من صقالبة بيت المنصور محمد بن أبي عامر المعروف بالصقالبة العامريين بأمور الركن الجنوبي الشرقي من الأندلس. خلال النزاعات التي اتسعت بين ملوك الطوائف، أخذ الصقالبة يفقدون ممتلكاتهم حتى لم يبق لهم سوى ميناء دانية في جنوب شرق الأندلس.

إزاء ضغوط اليابسة الأندلسية المتزايدة على صقالبة دانية، فكّر أحدهم، وهو مجاهد الداني العامري، في الاستيلاء على جزر البليار، وانتقل إليها بالفعل واحتلت قواته الجزر الثلاث عام 1015م.

من ذلك الحين، ذاع صيت مجاهد في حوض البحر المتوسط لا سيما بعد احتلاله جزيرة سردينيا وإغارته على بيزا، بدأ نشاطه بالاستيلاء على أجزاء من سردينيا وقرصقة (أورسيكا) عام 1016م، ومنذ اقترابه الحثيث من الشاطئ الإيطالي وجّه كل همه إلى غزو سواحل إيطاليا، حتى أنه احتل ثغر لوني على خليج سبيزيا في إقليم إستروريا واتخذ قاعدة لعملياته الحربية في الأراضي الإيطالية.

أثارت إغارات مجاهد الرعب في إيطاليا، ومن ثم نشطت الكنيسة في جمع قوى المسيحيين في أوروبا وتوجيهها لحرب مجاهد الداني ورجاله، وأصدر البابا يوحنا الثامن عشر إعلانا بابويا تعهد فيه بأن يمنح جزيرة سردينيا لمن يستخلصها من يدي مجاهد.

لكن المكافأة المجزية لم تفلح في حمل أمراء أوروبا على المجازفة بمواجهة مجاهد الداني، فاضطر البابا إلى التصدي بنفسه لمناجزة المسلمين، فجهز حملة دفعت الخزانة البابوية نفقاتها، وكان هدفها مهاجمة قاعدة مجاهد في لوني، فاجتهد الجنويون والبيشيون (بيزا) في الاستيلاء عليها وتم لهم ذلك واستمر الحلف بين بيزا وجنوا بمباركة الكنيسة، وهاجمت قواتها المتحدة سردينيا ونجحت في طرد مجاهد من بعض أجزائها وسرعان ما فقد المسلمون نفوذهم في تلك الجزيرة المهمة.

عاد مجاهد إلى قواعده في دانيه وجزر البليار من دون أن يتطلع الى مناجزة جنوى وبيزا.

بعد وفاة هذا الصقلي المجاهد عام 1045م، خلفه ابنه علي فواصل سياسة أبيه، لكنه لم يستطع أن يصمد طويلا أمام منافسات ملوك الطوائف، فاستولى بنو هود على ما بيده من الأملاك.

كان غياب دانيه عن ساحة الكفاح في حوض المتوسط حافزًا للبابوية على استكمال جهودها لاستئصال بقية الوجود الإسلامي في سردينيا، فقام البابا ليو التاسع بتوحيد البيشيين والجنوبيين من جديد ووجّههم إلى استخلاص سردينيا من أيدي المسلمين، وقد تم ذلك نهائيا عام 1050م، وكان ذلك الحدث بمثابة الخطوة الأولى لضياع سيادة المسلمين على غرب البحر الأبيض.