تنظم سورية النفوذ الإيراني في العراق وتربطه بمثيله في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، بكيفية تتسق مع مركزية جغرافيتها في خارطة المنطقة. ويؤدي انفتاح سورية على الأطراف الإقليمية غير العربية كلها إلى جعلها «محطة تجميع» القوى الإقليمية في المنطقة.

Ad

أفلحت المفاوضات السورية-الإسرائيلية في فك العزلة الدولية على ضية. وتوج هذا التغير بدخول الرئيس السوري قصر الإليزيه من أوسع أبوابه غداة القمة المتوسطية التي ضمت زعماء الدول المطلة على المتوسط من شماله وجنوبه والتي عقدت في فرنسا قبل أيام قليلة. ويؤدي التغير في البيئة الدولية إلى سحب رصيد كبير من معسكر «الاعتدال العربي» وتحفظاته على السياسة السورية، وبما يجعل العزلة العربية المفروضة على دمشق أضعف بكثير مما كانت عليه قبل انعقاد القمة المتوسطية. بمعنى آخر تنفتح الأبواب الغربية أمام دمشق لمجرد قيامها بمفاوضة تل أبيب، في حين تتراجع أهمية العزلة العربية المفروضة عليها ضمن السياق الإقليمي والدولي بسبب تراجع الدور العربي في المنطقة.

تستقطب المفاوضات السورية-الإسرائيلية اهتمام المنطقة والعالم، بسبب مركزية الجغرافيا السياسية لسورية في المشرق العربي من ناحية، وعلى خلفية السياق الإقليمي المتقلب بين التصعيد والتهدئة طوال السنوات الثلاث الماضية من ناحية أخرى. كانت سورية ومازالت جزءاً أساسياً من التصعيد والتهدئة الإقليمية بوصفها واسطة العقد في التحالف الذي تقوده إيران، حيث تنظم سورية النفوذ الإيراني بالعراق وتربطه بمثيله في لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة بكيفية تتسق مع مركزية جغرافيتها في خارطة المنطقة. ويؤدي انفتاح سورية على الأطراف الإقليمية غير العربية كلها إلى جعلها «محطة تجميع» القوى الإقليمية في المنطقة. وعلى الناحية المقابلة تنطلق الحسابات الإسرائيلية من قراءة أساسية مفادها أن قدرة سورية على ضبط الأوضاع في جوارها الإقليمي قد دلّلت عليها تجارب كثيرة في الماضي، وبالأخص في لبنان. كما أن سورية، في دورها الجديد كمحطة لتجميع القوى الإقليمية، يمكنها أكثر من غيرها التأثير سلباً في الحضور الإيراني في المنطقة، وهو ما يجعل لها أهمية استثنائية من المنظور الإسرائيلي. وتتسق هذه الحسابات مع نفسها عند توصلها إلى نتيجة أساسية مفادها أن الخلاف يدور في تل أبيب بين الأطراف المختلفة أساساً حول الثمن، الذي تستطيع الدولة العبرية أن تدفعه مقابل التسوية مع سورية؛ وليس حول تقييم الدور السوري الحاسم في تثبيت توازنات المنطقة، وإذ أبرمت القاهرة وعمان اتفاقات صلح مع تل أبيب، وقسم الفلسطينيون أنفسهم بين الضفة وغزة بما خدم الأمن الإسرائيلي، ودخلت دمشق في مفاوضات مع تل أبيب؛ فلا يتبق من تهديد عربي لإسرائيل سوى ذلك القادم من لبنان.

يملك «حزب الله» قدرات عسكرية تمكنه من تهديد جزئي لشمال إسرائيل على النحو الذي ظهر في حرب 2006. وبالرغم من القدرات الجوية الإسرائيلية التي استطاعت تحطيم البنية التحتية اللبنانية، فإن تفوق سلاح الطيران لم يحسم الحرب لمصلحة الدولة العبرية لأول مرة في تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. كما أن بقاء قوات احتلال إسرائيلية في لبنان لمواجهة التهديد لحدودها الشمالية، مثلما جرى في الفترة الممتدة من 1982 حتى 2000، غير مجد من ناحية حسابات الأرباح القليلة المتحققة في مواجهة الخسائر البشرية والمادية الكبيرتين، فضلا عن قدرة إسرائيل أصلاً على تحقيق ذلك مرة أخرى. ويقود هذا التحليل إلى نتيجة مفادها أن الهدف الإسرائيلي الحالي من المفاوضات مع سورية يتلخص في تحييد الخطر الآتي من لبنان، ولكن من دون أن تتورط الدولة العبرية في معارك عسكرية مباشرة. في حين كان التمدد نحو الغرب الشرط الأساسي للعب دور إقليمي ميز السياسة الخارجية السورية منذ سبعينيات القرن الماضي. ويزيد من كفاية التحليل التفسيرية حقيقة أن المصالح الوطنية لسورية- مثلها مثل مصالح أي بلد- تقتضي التنويع في تحالفاتها الإقليمية، وليس حصرها في دولة واحدة، كما هو الحال مع إيران الآن.

ومع التسليم برغبتها، التي ميزت سياستها الخارجية لعقود مضت، تبقى قدرة سورية على ضبط الأوضاع في لبنان مرة أخرى، والتي تستلزم مواجهة مباشرة ومكشوفة مع «حزب الله»، موضع تساؤل. ومرد ذلك أن تحقق سيناريو التدخل السوري المباشر في لبنان غير ممكن ضمن إطار صفقة سورية-إسرائيلية فقط، إذ إن الغطاء الأميركي والفرنسي والعربي للبنان سيمنعان حصولها، أما في حال وجود توافق دولي عام على تغيير التوازنات الإقليمية في المنطقة، عبر ضربة عسكرية لإيران، فإن تثبيت التوازنات المتولدة عن هذا التغيير الإقليمي الكبير سيخلق إجماعاً أميركياً وأوروبياً وعربياً على دور سوري جديد يكون لبنان محوره وجائزته في آنٍ معاً.

* كاتب وباحث مصري