يخرج وجيه نحله عن المشهد وعن اللوحة التشكيليّة، انشداداً إلى سماوات تخترق زرقتها تقنية اللون. ينفصل جذرياً عن تخطيطية المدارس الفنية وقراءاتها المسطحة. تغيّر لوحته وجهتها مع الإبقاء على موضوعها – الأصالة. ورغم انعطافها إلى التجريد لا تمارس التباساً، ولا تتحرّر من النزعة الإنسانية.

بعد سنوات ستين ملؤها الألوان يفكّر الفنان اللبناني في الوجود بأسلوب جديد ضمن إشكالية ترتقي إلى عالم من النورانيات يبدو جلياً في لوحاته الأخيرة، التي تحاول تدمير كل اعتقاد راسخ بعالم الواقع، لتحملك إلى عالم فوق – حسي.

Ad

منحت الحداثة نفسها من خلال ريشته، التي زيّنت معظم المتاحف العالمية، انسجاماً تاماً مع الإرث الإسلامي، وتابعت مسيرتها في ظلال الفنون البيزنطية، فتحوّلت إلى موضوع للتأمل العقلاني. بدأ الفنان «بهندسة» الصورة كما يريدها الآخرون، ولا يخفي هذا الأمر، الذي ساعده في الوصول إلى نزعة مثالية، رسم من خلالها فضاءات غيّرت الأمكنة وحولتها إلى متاحف.

في داره، متحف الحرف والمرأة والحصان، الكائن في الرابية (منطقة جبل لبنان) التقيناه، وكان الحوار التالي.

كيف تصف نفسك بعد عقود من الإبداع؟

ضائع في بحر هائج، أحاول الوصول إلى الأعماق لاكتشاف كنوزه. كذلك، لدي مخزون كبير من الإبداع ولا أملك وقتاً كافياً كي أفجّر الطاقة الدفينة في داخلي.

قلت «النقد الأوروبي أنصفني، ووضعني بين المجدّدين وعدّني مؤسساً لمدرسة فنية جديدة، أما في العالم العربي، فلا. فرق شاسع بين ما كُتب عن أعمالي باللغة الفرنسية، وما كُتب عنها بالعربية». كيف أنصفك النقد الأوروبي؟

النقد الفرنسي لم ينصفني كما يجب، لكنني ألتقيت في أحد الأيام بالناقد الفرنسي الراحل أندريه بارينو صاحب مجلة «حديقة الإبداع» عام 1977 في باريس وبعد اطلاعه على أعمالي وصفني

بـ «أحد رواد الرسالة التشكيلية في القرن الواحد والعشرين». وبعد هذا التوصيف راح النقاد يكتشفون مكانتي في عالم التشكيل تدريجاً.

لا أستطيع أن أنكر مساهمة العالم العربي بانطلاقتي، بدأت عام 1969 في الكويت ثم انتقلت إلى السعودية. آنذاك كان العالم العربي متعطشاً للفن التشكيلي، لا سيما أن نظرة الجمهور إلى التشكيل كان يشوبها جهل واسع. كانوا يهتمون بالحروفية فحسب، فيما كان رسم الإنسان أمراً محرماً.

أنا ومجموعة من الفنانين من العراق ومصر أدخلنا الحرف العربي إلى الفن التشكيلي المعاصر لصياغة لوحات فريدة من نوعها. بدأت أنتج لوحات للبنان، ثم انتقلت إلى غيره من بلدان عربية، خصوصاً أنني كنت الفنان اللبناني الوحيد الذي يرسم الحرف.

لماذا هاجمك النقّاد اللبنانيون آنذاك؟

علّل النقاد هجومهم بأن الحرف لا علاقة له بالتشكيل وأن أعمالي لا تتمتع بقيمة فنيّة. وأشير هنا إلى أن هذا الاعتقاد مصدره أن معظم الرسامين اللبنانيين تعلّم في فرنسا وإيطاليا وأسبانيا، وعاد مغموراً بالطابع التجريدي. أما أنا فتشرّبت ريشتي من التراث العربي - الإسلامي والبيزنطي، فصارت لدي مدرستي الخاصة التي اكتشفتها بنفسي. في عام 1977 بدأت انطلاقتي في العالم العربي، ثم ذهبت إلى فرنسا، وبعدها إلى أميركا لتبدأ رحلتي الحقيقية.

من التراثيات إلى الإسلاميات، ثم الحروفيات والجداريات النسيجية، وصولاً إلى التجريد... أين أصبح الحرف في لوحاتك؟

مرحلة الحرف انتهت، وتلك المراحل كافة كانت تجارب تخطيتها. اليوم، أصبح الحرف بعداً واحداً. لم اعد أرسمه، بل أشعر به وأصوره من الداخل. أصبح فكرة. تحوّل إلى امرأة ذات جناحين، إلى حصان جامح.

في أي مرحلة أنت اليوم؟

وصلت بعد 60 عاماً من التأليف إلى مرحلة «الإبداع الخالص»: أضع القماشة البيضاء أمامي من دون الارتكاز إلى فكرة معينة، أقترب منها وأبدأ بنثر الألوان، ثم أبتعد نحو أربعة أمتار وأنظر إلى اللوحة لتحديد الخطوة المقبلة، وهكذا دواليك... إلى أن تتشكّل اللوحة وتأتي معها «النشوة الفنية».

يتهمك البعض بأنك «بائع لوحات»، أي أنك لا تهدف إلى الفن كفن بل تستغله لمزيد من الربح؟

عندما بدأت الأحداث اللبنانية (1975) وإلى بداية الثمانينات، انزويت على نفسي في محترفي أرسم. كان أولادي الخمسة آنذاك في طور الدخول إلى الجامعات. حينها تفرّغت لإنتاج الفن الإسلامي من جداريات ومنحوتات كي أؤمن ما انشده من اكتفاء ذاتي لي ولعائلتي. ودخلت المرحلة التجارية كما يقول البعض، أما أنا فأصفها بـ «مرحلة الاكتفاء الذاتي»، بـ «رحلة تزيينية» ساعدتني على الانطلاق.

هل تعترف بهذه المرحلة اليوم؟

بالطبع، لأن مدخولي من وظيفتي في القطاع العام آنذاك بالكاد كان يكفيني وعائلتي. كنت أقدّم ما يريده هذا وذاك، ما تبتغيه جارتي، مثلاً، من لوحات تتناسب ألوانها مع الستائر وغيرها من أثاث المنزل. تلك كانت مرحلة انتقالية أغدقت عليّ بكمّ من الاكتفاء أخرجني من نطاق ما يريده الآخرون.

من ساعدك في مسيرتك الفنية؟

صديقي غسان إبراهيم شاكر. عندما كنت أقيم معارض كان يشتري اللوحات المتبقية فيها، ما مكنني من بناء بيتي ومحترفي، ناهيك إنه طبع كتابي الأول أيضاً. لولاه لكنت بعد موظفاً.

عندما سألته عن ماهية الأشخاص الذين يهديهم اللوحات أخبرني أنهم ملوك وأمراء تجمعه بهم صداقة، من بينهم آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز، ومعظم أبناء العائلة المالكة في السعودية، والملك الأردني الحسين بن طلال، وسلطان عمان قابوس، والرئيس الأميركي أيزنهاور. لم أصدق حينها أن لوحاتي يملكها هؤلاء.

فنان يبيع لوحاته وآخر يندب حظه، كيف تفسّر هذه الظاهرة؟

المهم ليس اللوحة ولا الفنان ولا حتى الجمهور. المهم الإعلان المخفي، والتسويق تحديداً الذي يتجسّد اليوم في الانترنت والدعوات المستمرة التي تحتوي على شرح اللوحة أو المنحوتة التحليلي. واللافت أنك بزيارة معارض كثيرة تكتشفين أنها لا تحتوي على ما له قيمة، فيما تبقى الأعمال المهمة خلف الستار لأن صاحبها لا يجيد الـ{ماركيتينغ» ولا يتوافر لديه من يساعده على ذلك.

أنت من القلائل الذين يرسمون أمام الجمهور، ولك أكثر من تجربة في هذا السياق محلياً وعالمياً. ألا يخسر الفنان شيئاً من أسراره الفنية عندما يبوح بتقنيته أمام الآخرين؟

هذه التجربة جاءت لسبب بسيط: أرادت إحدى طالبات السنة الرابعة في معهد الفنون في لبنان إتمام مشروع حول الإلمام بأحد الفنانين اللبنانيين المخضرمين. نصحتها والدتها بزيارتي، وعندما قالت الطالبة لأستاذها إنها اختارت وجيه نحله، أجابها الأستاذ أن الأخير خطّاط يرسم واجهات المحلات التجارية، وأن «عبداً» لديه يرسم اللوحات، أمّا هو فيكتفي بالإمضاء.

زارتني الطالبة ووالدتها وقالت لي أنها تريد مساعدتي في مشروعها، فطلبت منها أن تحضر لي بعضاً من لوحاتها، فوجدت أنها لا تحتوي شيئاً من الفن. نصحتها بأن تمارس الفن يومياً وألا تكتفي بحفظ النظريات حول بيكاسو ورينوار، وأن تعشق ما ترسم كي تصل إلى مرحلة الانعتاق في اللوحة. آنذاك اكتشفت أن الطالبة لم تر بعد أستاذاً يرسم اللوحة، بل يكتفي المسؤولون بتعليم الطلاب النظريات، ربما كي لا ينافسونهم لاحقاً.

فعلاً تمكنت الطالبة أخيراً من إبداع لوحة مميزة، بدا واضحاً من خلالها أنها امتزجت مع اللون وأنها وصلت إلى الشفافيّة وإلى علاقة الحس بالجسد، وفهمت أن قطعة القماش جسد والفرشاة أنامل.

من خلال تلك التجربة، أتخدت قراري بأن أؤكد للعالم أنني أرسم لوحاتي بنفسي، وأنني لا أحوّل الصور إلى لوحات، ولا أقتطع زاوية من هنا وأخرى من هناك وأشكّل لوحة، ولا أصوّر المشهد وأنقله... بل أبدأ من فراغ، من عدم. أضع قماشة بيضاء وأستقطب من أحب وأستعين بخبراتي وتقنياتي الخاصة، فتولد لوحة ذات روح جديدة.

كم تستغرق اللوحة من وقتك؟

ساعة ونصف الساعة كحد أدنى. أبدأ من الصفر، وبالتركيز والتأمل أستقطب الطاقة إلى داخلي، وأنقّي فكري من كل شيء، وأشحنه بحسّين الفرشاة واللون، من دون أن أضع في تصوري فكرة معينة لرسمها. والموسيقى قد تؤدي دوراً فاعلاً في تعزيز الإيحاءات.

أين أصبح الفن الإسلامي في أعمالك؟

انتهيت من المراحل الأولى، حتى الفن الإسلامي لأنه لم يعد يشتمل على التأليف. وصلت إلى مرحلة من النورانية وهي لآخر المراحل وفيها لا يلامس الفنان شكل اللوحة النهائي إلا عندما يبتعد عنها أربعة أمتار تقريباً ليرى الصورة على حقيقتها، ويدرك أين ستصبح.

المرأة حاضرة في أعمالك دائماً.

المرأة موجودة دائماً في حياتي، لذا تحضر في لوحاتي بصورة لافتة، خصوصاً النساء اللواتي جمعتني بهنّ علاقة روحيّة. عرفت المرأة كيف تنقي روحي وتغربلها من الشوائب (رسم نحله لوحة ثلاثية الأبعاد تطل منها عين امرأة تلاحق الناظر في الجهات كافة). كذلك علمتني وأعطتني حساً مرهفاً ربما كان موجوداً لدي لكنني لم أكن أجيد استعماله.

أنت غزير الإنتاج، أليس الرسم إيحاءات وتأملات؟

الغزارة بعد خبرة طويلة ليست عيباً، وأنا منذ عام 1972 أخذت على نفسي عهداً بأن أوقّع يومياً عملاً. ثمة لوحات لا أحتاج إلى أكثر من دقيقة ونصف الدقيقة لرسمها، لا سيما أنني لم لا أحدّد المساحة التي التي أريد أن أملأ فراغها كما يفعل كبار الفنانين، ولا استخدم فرشاة لا يتعدى عرضها الإصبع، بل فرشاة عرضها 10 سم.