على رغم توافر بعض حكم وأقوال يثني على دور المرأة في المجتمع، إلا أن نظرة وجيزة إلى أمثال شعبية وشعرية عربيّة وأجنبيّة كثيرة تتطرق إلى المرأة تؤكد أن الشعوب تمارس من خلال الأمثال تحيّزاً عنصرياً ضد النساء، ويذهب البعض إلى أن المرأة مهنتها واحدة في الحياة وهي الزواج. وفي موسوعة صادرة أخيراً بعنوان «إياك والزواج بكبيرة القدمين» للباحثة الهولندية مينيكيه شيبر طائفة من أمثال من بلدان كثيرة لا يلبث أحدها يطيح بكرامة المرأة حتى يسانده آخر، فـ»بالنسبة إلى المرأة الزواج مهنة، وللنساء شعر قصير وعقل قصير، والمرأة بلا زوج سفينة بلا دفة، والشيطان أستاذ الرجل وتلميذ المرأة، وثق بامرأتك ما دامت أمك تراقبها، والبنات هم للممات... والبنت تجيب العار والمعيار للباب الدار، وإن حبوك يا ويلك وإن كرهوك يا ويلك»...

اللافت أن مجتمعات كثيرة استثنت الأم من هذه اللائحة، فأمثال شعبية كثيرة تثني على رمزية الأم وتلقي النوائب كافة على المرأة، حتى نابليون بونابرت نفسه الذي كان أسير حبه لامرأة، لم يستطع على رغم سلطانه إخضاعها، فشتم النساء وقال في المقابل: {الأم التي تهز السرير بيمينها تهز العالم بيسارها»، وعلى هذا تبدو صورة الأم مثالية وعابقة بمعانٍ ورديّة في النسيج الثقافي، أو هي رمز مقدس يقف كل كاتب عند معانيه.

Ad

صورة الأم والأب نمطية في الأدب والشعر، خصوصاً في العالم العربي. فالأم هي مثال العطف والحنان، والأب مصدر القوة والجبروت والتسلّط، وهذا ما نلاحظه في شعر نزار قباني و{ثلاثية» المصري نجيب محفوظ وغيرهما. وحين كتب الروائي اللبناني محمد أبي سمرا عن أم شريرة في روايته «الرجل السابق» بدا وكأنه يكسر قالب النمطية.

الأمومة من الأُمّ، وأُمّ كل شيء: معظمه، ويقال لكل شيء اجتمع إليه شيء آخر فضمّه: هو أُمٌّ له. والأمومة: عاطفة رُكزت في الأُنثى، تدفعها إلى مزيد من الحنان. وقيل: {الجنة تحت أقدام الأمهات». وغنّت فيروز من شعر سعيد عقل:

أمي يا ملاكي/ يا حبيَّ الباقي ألى الأبد/ ولم تزل يـداك أرجوحتي/ ولم أزل ولد/ يرنو إليَّ شهرُ/ وينطوي ربيعُ/ أمي وأنت زهرُ/ في عطره أضيعُ...

وإن حدث أن فات أحدهم الاستماع إلى هذه الأغنية فحتماً لم يفته تَغنّي فايزة أحمد بـ{ست الحبايب». أغنيتان طالما قدمناهما للأم احتفاء بعيدها وهي الصورة المقدسة، هي الملاك طوراً والجنة تحت أقدامها طوراً آخر، على أن صورتها في الشعر لها معانيها المختلفة، خصوصاً في لحظات فقدان الأم، نقرأ ذلك في بعض قصائد أنسي الحاج الذي كتب كثيراً عن طفولته بعد وفاة والدته وعباس بيضون الذي يرثي أمه قائلاً: «وقفتُ عند رأسها في المستشفى وهي تسلمني حياتي قطعة قطعة. وحين أزلتُ عنها الزّحار والقيء وجدتُ الأرغفة التي امتنعتْ عن أكلها لأجلي، وكل شيء أحمر أطعمتني إياه بالقوة».

لعل أشهر من كتب شعراً عن الأم في العصر الحديث الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، صاحب قصيدة «أحن الى خبز أمي» التي غناها مارسيل خليفة، والتي «تُطرب» اليوم مسامع كل من يشاهد إحدى فضائيات إعداد الطعام الشهيرة، على رغم أن من يحضرّن الطعام عليها لا يشبهن الأم التي كتب لها درويش ولا طعم «خبزهن» ورائحته يذكّران بما صنعته يدا والدة الشاعر وأمهات كثيرات...

توفيت حورية والدة درويش قبل أسابيع وكان لها حضور طاغ في قصائد ابنها، منذ «أحن إلى خبر أمي»، وإلى «تعاليم حورية»، التي صوّر فيها الشاعر كثيراً من الحب والحب المعاكس:

أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.

تمشّطني بخصلة شعرها الذهبيّ.

تبحث في ثيابي الداخليّة عن نساءٍ أجنبيّاتٍ،

وترفو جوربي المقطوع.

وحاول في قصيدة من مجموعته «لماذا تركت الحصان وحيدًا» استحضار ذكريات اللجوء التي تكتب ملامح أمه:

هل تتذكرين طريق هجرتنا إلى لبنان،

حيث نسيتني ونسيت كيس الخبز (كان الخبز قمحيًّا).

ولم أصرخ لئلاّ أوقظ الحرّاس.

حطّتني على كتفيك رائحة الندى.

يا ظبيةً فقدت هناك كناسها وغزالها...

لا وقت حولك للكلام العاطفيّ.

عجنت بالحبق الظهيرة كلّها.

وخبزت للسّمّاق عرف الديك.

أعرف ما يخرّب قلبك المثقوب بالطاووس،

منذ طردت ثانيةً من الفردوس.

«تكوّن لديّ شعور بأنّ أمي تكرهني. كان هذا عقدة أو شبه عقدة. ولم أعلم أنّه ليس صحيحًا إلا حين دخلت السجن للمرة الأولى، وأنا في السادسة عشرة. زارتني أمي في السجن وحملت لي قهوة واحتضنتني وقبلتني. فعلمت أنّ أمي لا تكرهني. كتبت «أحنّ إلى خبز أمي» قصيدة مصالحة معها». قال درويش متحدثاً عن علاقته بوالدته... حنان وحرية ووطن ونور هي أم درويش، والصورة مختلفة قليلاً لدى الشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي فقد أمه وهو لم يكمل عامه الأول بعد، فكانت صورتها غائمة في أشعاره، التي يبدو الشاعر فيها رافضاً غياب والدته آملاً عودتها قريباً. قال في قصيدته «أنشودة المطر»:

‏تثاءب المساء

والغيوم ما تزال تسح

ما تسح من دموعها الثقال

كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينام

بأن أمه التي أفاق منذ عام فلم يجدها، ثم حين لج في السؤال

قالوا له: بعد غد تعود...

‎لا بد أن تعود

وإن تهامس الرفاق إنها هناك

في جانب التل تنام نومة اللحود

تسف من ترابها وتشرب المطر.‏

‏شعراء النهضة

في شعر المصري حافظ إبراهيم صورة نمطية عن الأم:

الأمُ مدرسة إذا أعدَدْتَها / أعدَدْتَ شعباً طيبَ الأعراقِ

الأمُ روضٌ إن تعهده الحيا / بالريِّ أورَق أيّما إيرَاقِ

الأم أستاذ الأساتذة الأُلى / شغَلَت مآثرهم مَدى الآفاقِ

أبيات رددها كثيرون حتى ظنّ البعض أنها مثل شعبي، إذ يربط إبراهيم تحضّر المجتمع باتساع مدى ثقافة الأمهات فيه، وفي نظرته هذه بعد أخلاقي لم تلتفت إليه قصائد الشعر الحديث عموماً. وتحضر الأم الحنون أيضاً في أشعار أبي القاسم الشابي وأحمد شوقي وخليل مطران ومعروف الرصافي وناصيف اليازجي وآخرين. قال الشابي:

الأمُ تلثم طفلها وتضمه / حرمٌ سماويّ الجمال مُقدس

فخرّت الأم حول / الصبيّ تصرخ ويلي

ومن أبيات شوقي:

يسيرُ على أشلاء والده الفتى / وينسى هناك المرضع الأم والأبِ

فيقالُ الأم في موكبها / ويُقال الحرم العالي المَصُون

وَصُن لغة يحق لها الصِيان / فخير مظاهر الأم البيان

فاشتغل القلب عليه واشتغل / وسارت الأم به على عجل

وقال خليل مطران:

نعمت الأمُ أنجبت خيرة الأولاد / للبِّرِ والنَدى والوفــاءِ

الأمُ شمس والثريا لكم / أخت وما منكم سوى بدر

وأحنُو عليها حنية الأمِ مُشفِقاً / وهيهات تحميها من البينِ أضلعي

ثم قال الشاعر معروف الرصافي:

إن خدمنا فلا تريد جزاء / ومِن الأمِ هل يُرادُ جزاء

فحضن الأمِ مدرسة تسامت / بتربية البنين والبناتِ

فعاش عيش الأم لم يوَفِه / مَلبَسه ولا مطعمه

أمّا ناصيف اليازجي فكتب:

ألِف هذي الحياة جدد في الأم / نفس أنسابها فطالها الحنين

المالُ يُفرِّقُ بين الأم والولد فذاك / أدنى نسيب عند كلِ يـد

هي الأم التي ضمّت بَنِيها / إلى أحشائِها ترجو الثوابا

يا أيّها الأم الحزينة أجملي صبراً / فإنّ الصّبر خير طبيب

صور أخرى

صورة درامية حول الأم تتوضّح ملامحها في الشعر الأجنبي، خصوصاً من خلال الشاعر الفرنسي شارل بودلير المولود في عام 1821.

فقد بودلير والده وهو في السادسة. فحزن عليه كثيراً، بحسب قوله، لأن والده كان يلعب معه ويأخذه إلى حديقة اللوكسمبورغ في وسط العاصمة الفرنسية باريس. لكن حزن أمه أثّر في نفس بودلير عميقاً حتى أنه فاق حزنه على موت والده. وبعد عام أو أقل تعرفت والدته على ضابط يدعى أوييك. وحينها أظلمت الدنيا في عيني بودلير، فحب والدته لم يعد له وحده، بل يشاركه فيه شخص آخر.

يقال إن عذاب بودلير هذا أدخله عالم الفن والشعر، ليصوّر معاناته ويخطّ أبياتاً سوداوية قاتمة حول جحيمه. وقال عن نفسه في خطاب ألقاه عام 1814: «أنا إنسان مريض شنيع الطباع، والذنب هنا هو ذنب أبواي... من جراهما يسري البلى في نسجى وتنحل عراي، وترث قواي، ذلك مَن يُولد من أم في السابعة والعشرين وأب طاعن في الثانية والستين فتأمل يا صاح خمسة وثلاثون عاماً بين الاثنين، تقول إنك تدرس علم البنية والطبائع، ألا فسل نفسك عمّا ترى في الثمرة الناتجة عن قران كهذا القران؟».

اللهفة إلى حنان الأم مثّلت عقدة بالنسبة إلى بودلير، حنان بحث عنه في النساء كلهن اللاتي تعرف إليهن. وعودتها إليه جاءت متأخرة وهو على فراش الموت. فلم يجد منها ما افتقده من حنان قبل أن يودع حياته القصيرة، التي فارقها مهمهماً كلماتٍ غير مفهومة:» الألوان تشحب، يداي ترتجفان، أريد النوم»... في القصائد خلّد الشعراء أمهاتهم وكي لا يذهب مصير الكلمات أدراج الرياح كانت الأمهات.