تحريك الدعوى القضائية من قبل المدعي العام الدولي ضد الرئيس السوداني لا يجب أن يتم التعامل معها بالمدخل السياسي ذاته الذي يفترض وجود مؤامرة كبرى تقودها دولة أو دول كبرى، بل من الواجب أن يكون التعاطي معها فنياً قانونياً قبل أن تتعقد الأمور.الكيل بمكيالين وربما أكثر، والانتقائية في السياسة، وهيمنة الأقوى على مجريات الأحداث، هي من طبيعة الأشياء. وأن تكون الولايات المتحدة، لها من الهيمنة والنفوذ على الساحة الدولية أكثر مما لغيرها من الدول ليس اكتشافاً عبقرياً، يكتشفه المكتشفون، كما أنه ليس بجديد أن القوى الكبرى تتصرف في كثير من الأحيان بما يخدم مصالحها، وقد تغتصب، وتتعدى، وتتجاوز على الدول الأضعف، بل وتنتهك حقوق الإنسان إن كان في ذلك ما يحقق مصالحها، وهذه الوضعية مرفوضة بكل المقاييس سواء جاءت تلك السلوكيات من كبير كان أم من صغير.فهذا الوضع «المايل»، وحال الانحراف ليست مقصورة على القوى الكبرى، ففي كل إقليم ومنطقة هناك قوة كبرى تمارس الغطرسة نفسها والتعديات ذاتها في إقليمها وعلى القوى الأضعف فيه، وكذلك يحدث الأمر ذاته على مستوى البلد الواحد، حين يمارس الهيمنة والإقصاء والتعدي مَنْ يملك مقدرات القوة ويسيطر على مفاتيح القرار، على حق الشرائح الاجتماعية الأضعف في المجتمع، أو المعارضين للحاكم.فلم يعد مقبولاً والحال كذلك، أن يتم السكوت عن «الطغاة الصغار» لمجرد أنهم صغار، أو لمجرد أن هناك طاغية أكبر يعيث في العالم فساداً، فالاختلاف هنا قد يكون بالدرجة فقط.يأتي ذلك في سياق محاولة الإفلات من العقاب لأولئك الذين ارتكبوا جرائم حرب، أو جرائم ضد الإنسانية، أو جرائم إبادة جماعية، كما يأتي ذلك في إطار تحولات دولية مهمة وخطيرة في بناء قواعد جديدة في القانون الدولي لمحاصرة الأشخاص والأنظمة التي ترتكب جرائم إنسانية، ولا تقيم وزناً لكرامة الإنسان، وتفتك بالبشر والشجر والحيوان.والمؤكد في هذا الإطار، أن إنشاء المحكمة الجنائية الدولية بموجب اتفاقية روما عام 1998، لم يكن وفقاً لرغبات الولايات المتحدة، بل جاءت الاتفاقية عكس ما أرادت تماما، بل إن الولايات المتحدة وعبر جهود مضنية لوزير عدلها اليميني جون أشكروفت، بذلت ما في وسعها كله لإفشال المشروع التاريخي الذي دفعت به إلى النور حركة دولية واسعة من المناضلين، وكان لافتاً للنظر أن أكثر الدول شراسة في معاداة إنشاء المحكمة الجنائية الدولية هي الولايات المتحدة وإسرائيل وأغلبية الدول العربية.ربما كان أول رئيس تتم محاكمته عبر العدالة الدولية هو الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسفيتش لاتهامه بجرائم حرب ضد المسلمين البوسنيين، ولا يغير في الأمر أنه كان قد حوكم عبر محكمة جنائية دولية خاصة.وهكذا... فإن تحريك الدعوى القضائية من قبل المدعي العام الدولي ضد الرئيس السوداني لا يجب أن يتم التعامل معها بالمدخل السياسي ذاته الذي يفترض وجود مؤامرة كبرى تقودها دولة أو دول كبرى، بل من الواجب ان يكون التعاطي معها فنياً قانونياً قبل أن تتعقد الأمور... وللحديث بقية.
مقالات
العدالة الدولية
20-07-2008