راؤول كاسترو؛ ولن نقول عنه إنه كاسترو الثاني إذا أوفى بعهوده، قدّم عرضاً جيداً للمستقبل القريب، وقد تبقى كوبا حينذاك مثالاً عن الحرية وحقوق الفقراء ليس في قارتها اللاتينية وحدها، بل في عالمنا كلّه.

على الرغم من أن الاقتصاد والطاقة والأمن كانت المحاور التي أرادت الإدارة الأميركية التركيز عليها في مؤتمر قمة الأميركتين في ترينيداد وتوباغو، إلاّ أنً المسألة الكوبية كانت بؤرة الاهتمام من الجميع هناك. وقبل مغادرته واشنطن مباشرة في أوّل رحلةٍ له جنوباً، قام أوباما بتخفيف القيود على السفر والتجارة والبريد مع كوبا، ثم قال إنه يتطلّع إلى «بداية جديدة» مع الجارة الكاريبية، بعد نصف قرنٍ من العداء والتوتّر، الذي وصل أحياناً إلى حدود الأعمال الحربية.

Ad

ويتناغم أوباما في ميله ذلك مع أغلبية صناع القرار في واشنطن، الذين ظهرت اتجاهاتهم منذ منتدى كاتو عام 2001 حول سياسة إدارة جورج بوش في المسألة الكوبية، لكنه ينسجم أيضاً مع رغبة القادة اللاتينيين الشديدة بالتوجّه لحل المسألة بروح إيجابية. فالقارة الأميركية الجنوبية تغلي على زيتٍ حار، يدفع إلى الأمام بمزيد من الحكومات اليسارية التي تحرص أكثر على مصالح الفقراء، وهم كثر في تلك القارة. و كان أحد حكماء هؤلاء القادة، الرئيس البرازيلي لولا، تحدث دافعاً إدارة أوباما إلى إجراء مراجعة شاملة للسياسة الأميركية في هذا المجال. كما قالت جوليا سويج، وهي مديرة في برنامج أميركا اللاتينية في مجلس العلاقات الخارجية، إن لكوبا قوة رمزية هائلة، فهي «رمز لدفاع أميركا اللاتينية عن نفسها أمام واشنطن، ورمز للقوة الأميركية حين تحيط بالقارة الجنوبية»، لذلك تظهر رمزية مقابلة ومهمة جداً في عيون اللاتينيين لقيام الولايات المتحدة بخطوات جدية تجاه كوبا. كما أن «جوهر السياسة المطلوبة وموضوعها أمر مهم أيضاً».

وكلّ هذا كان متوقعاً إلى هذا الحدّ أو ذاك، لكن المفاجأة جاءت هذه المرة من الجزيرة الكاريبية، إذ قال راؤول كاسترو، الحاكم بعد أخيه، في اجتماعه مع رفاقه من القادة اليساريين في فنزويلا، إنه على استعداد للبحث «في كل شيء»، وإنه قد أرسل كلمةً للولايات المتحدة تقول هذا «... مناقشة كل شيء: حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، والسجناء السياسيين... كل شيء، ولا حدود للحديث حول الطاولة»!

ولا بدّ أن أوّل ما يخطر في البال هو التساؤل عن السبب الذي يجعل سلطة حاكمة تتأخّر نصف قرنٍ عن هذا التصريح الذي لم يتحوّل بعد إلى خطى عملية، أو السبب الذي يجعل مثل هذه السلطة تقدّم وعداً يتعلّق بشعبها إلى الغريب، ولا تقدّمه مباشرةً إليه، فهل حقوق إنسانها وسجناؤها السياسيون وحرية الرأي لدى شعبها رهينةٌ ضدّ ذلك الغريب، أم ماذا؟!

لكن هذا يجب ألا يمنعنا من استحسان الأمر على كلّ حال، بل الترحيب به، والدعاء والدعوة إلى آخرين، في بلادنا خصوصاً، إلى الأخذ بهذا المثل والالتحاق به سريعاً.

فحين قال مارك فالكوف إن هنالك خمس مسائل في العلاقات الأميركية-الكوبية، كانت «العطالة» أولها، وهي كناية عن قوة الاعتياد والاستمرار على سياسات استمرت عقوداً، بل قال إن تغيير هذه السياسات أصبح بصعوبة تحويل بارجة حربية ضخمة لمسارها. وهذه العطالة، فيما يبدو، هي السبب أيضا في تأخّر الكوبيين منذ عهد كاسترو إلى كاسترو الثاني، وهي سبب كذلك في استرخاء الكوريين الشماليين والسوريين والليبيين وغيرهم، بحدود أقلّ حدّة أو أكثر.

أو لعلّهم يستسهلون سياساتٍ أخرى، تتضمّن الشعبوية، وتحترف البقاء على حافة التوتر والحرب، وتتجنّب أيّ بحثٍ في حقوق شعوبهم المباشرة. محمود أحمدي نجاد يفعل شيئاً من ذلك؛ مع احترام كونه منتخباً، ولو في شروطٍ غير نظامية ولا قياسية.

فهو قدّم بياناً عملياً في خطابه أمام مؤتمر «ديربان 2» في جنيف أخيراً- ننصح بقراءة نصه الكامل- ركّز في معظمه على نقد النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية وحقّ النقض في مجلس الأمن. فكان خطابه مقاتلاً، أو أنه تبشير خارج إطار المؤمنين، أثار غضب الآخرين لهجومه على عنصرية إسرائيل، وغضبنا من ردّ فعلهم الذي جاء تحت عنوان الاحتجاج على اتهام إسرائيل بالعنصرية، في نوعٍ مقابل من التكفير والتقديس والتدنيس. لكن «استغرابنا» موقف الأميركيين والأوربيين الذي نجح أحمدي نجاد بتحريضه في خطابه الانتخابي ذاك، لا ينفي أنها معركة خاسرة في غير وقتها ومكانها وأسلوبها. وليست قضايانا الكبرى، لا أمام إسرائيل والمسألة الفلسطينية، ولا في حقوق إنساننا المقهور من حكامنا قبل غيرهم، بلعبة انتخابية ننسجها على حدود الهاوية، التي تجذبنا بقوة!

راؤول كاسترو؛ ولن نقول عنه إنه كاسترو الثاني إذا أوفى بعهوده، قدّم عرضاً جيداً للمستقبل القريب، وقد تبقى كوبا حينذاك مثالاً عن الحرية وحقوق الفقراء ليس في قارتها اللاتينية وحدها، بل في عالمنا كلّه.

* كاتب سوري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء