مونتينياك، فرنسا – الثور الأسود الرائع، الذي رسمه فنان من العصر الحجري على جدار كهف في جنوب غرب فرنسا منذ 17 ألف عام، تخطى آلاف السنوات من الحروب والطاعون على ارتفاع أمتار من الكهف الموجود تحت الأرض. اليوم، قد يضمحل هذا الثور الذي يعود إلى عصر ما قبل التاريخ، بسبب اجتياح الفطريات في أحدث سلسلة من التهديدات الناتجة من السياح، العلماء والبيروقراطيين.«كل مرة نحاول فيها حلّ مشكلة، نخلق مشكلة أخرى»، على حد قول ماري آن سير، مديرة الكهف التي تنسق الفرق العلمية العاملة على إنقاذ الغزلان، الأحصنة ووحيد القرن المهددين بالإنقراض في كهف لاسكو الذي يضم إحدى أشهر مجموعات فن ما قبل التاريخ في العالم.أصبحت المخلوقات الرائعة، أي مئات الحيوانات المدهشة المحفورة والمرسومة على جدران وأسقف الفجوات الضخمة المدفونة تحت الأرض، جزءاً من الكفاح الدولي لإنقاذ فن إنسان ما قبل التاريخ من أخطاء الإنسان العصري. شكل كهف لاسكو محور جدال عالمياً مطروحاً على الانترنت. هل يجب أن تتحول المواقع التراثية إلى مختبرات متخصصة، بهدف حفظها، لإجراء الدراسات حصرياً؟ أم أنها جزء مهم من الإرث البشري وبالتالي يجب أن تبقى مفتوحة أمام العامة على الرغم من المخاطر المتضمنة؟ذكرت اللجنة الدولية لحفظ كهوف لاسكو في موقعها الالكتروني أن «الأعمال الفنية في لاسكو إرث ينتمي إلى البشرية جمعاء. ألقى الكهف الأضواء على ما عُرف سابقاً عن تطورنا الخلاق كبشر وقدرتنا على تكوين صورة من مجرد فكرة تجريدية».تُظهر الأحصنة، الدببة، الغزلان والثيران الغريبة فهماً للعمق والحركة البصرية لدى فناني كرو-مانيون، الذين لم يظهروا في فن العصر الحديث إلا منذ بضعة قرون. يبدو أن الكائنات تتحرك على مساحات الجدران غير المتساوية حيث تقطع الغزلان النهر وتعدو الأحصنة وسط الماشية ويجري الوعل في المساحات الشاسعة. لا يستطيع العلماء سوى التكهن حول الغاية الأساسية من الكهف ومعنى الرموز الهندسية المتكررة في 600 رسم و1500 نقش على الجدران. تقول النظرية الأكثر شيوعاً إن كهف لاسكو والكهوف الأخرى المليئة بالأعمال الفنية في المنطقة، كانت ملاذاً مارس فيه انسان العصر الحجري طقوسه الدينية. الحرب العالميةأعاد أربعة أولاد اكتشاف الكهف عام 1940 عندما وجدوا، برفقة كلبهم، حفرة أحدثتها شجرة بعد سقوطها. أبلغ الأولاد معلمتهم عن اكتشافهم العظيم، وما لبث الخبراء أن اعتبروا هذا الكهف أحد أهم مواقع فن العصر الحجري القديم في العالم. في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، بذل الشعب الفرنسي جهداً كبيراً لتجاوز الأزمة الاقتصادية. تقع الكهوف على ملكية خاصة وقرر صاحبها، أي عائلة روشفوكو، فتحها للعامة. فوسعت المدخل، بنت الأدراج واستبدلت الرسوب بأرضية إسمنتية.وقعت كهوف لاسكو، على غرار الكثير من المواقع التاريخية، ضحية شهرتها. تضررت بفعل السياح الذين أدى تنفسهم إلى ارتفاع معدلات ثاني أكسيد الكربون وبفعل الفطريات القاتلة والجراثيم والبقع السوداء. بات الوضع محفوفاً بالمخاطر لدرجة دفعت السلطات الفرنسية إلى إغلاق الكهف أمام معظم السياح منذ 25 سنة. أنشئت نسخة مطابقة للغرفتين الأكثر شهرة فيه لتستقبل حشود السياح.لكن ما يزيد الطين بلة هو أن النسخة المطابقة للكهف تضمحل تدريجياً، لدرجة أن العلماء يفكرون في إنشاء مشروع لترميم الكهف الزائف. لا شك في أن المشكلة الكبرى هي الكهف الحقيقي. في يناير (كانون الثاني) من هذا العام، اتخذت السلطات خطوة مهمة عبر إقفاله لثلاثة أشهر أمام الجميع، وحتى العلماء ومناصري الحفاظ على المواقع التاريخية. سُمح لشخص واحد فحسب بدخوله لعشرين دقيقة مرة واحدة في الأسبوع لمراقبة الظروف المناخية. الآن، يُسمح لبعض العلماء العمل في الداخل ولبضعة أيام شهرياً. يقول المسؤولون الفرنسيون إنه قد يبقى مغلقاً أمام المجتمع العلمي الأشمل لسنتين أو ثلاث سنوات إضافية.ماري آن سيرتعنى ماري آن سير (48 سنة) بعملية حفظ الكهف، وهي خبيرة ترميمية كانت مهمتها ترميم الرسوم المنتمية إلى القرون الوسطى في الجهة الخارجية من الكنائس. بصفتها مديرة الكهف، تنسق عمل فريق مؤلف من 25 عضواً من علماء الأحياء، مناصري الحفاظ على الموارد الطبيعية، المرممين، علماء الآثار وغيرهم من الخبراء. تتحدث سير الجالسة في مكتبها الصغير الواقع في غابة كثيفة من أشجار السنديان عن جهود فريق العمل لإنقاذ كهف لاسكو ووصفته بالكابوس العلمي. ورث العلماء تاريخاً من الأخطاء وسوء فهم أعمال الكهف الداخلية منذ اليوم الذي فتحه مالكه أمام الزوار والمشاكل الناتجة منهم. على مرّ العقود، أدت محاولات حلّ المشاكل إلى ظهور مخاطر جديدة. قضت مادة الفورمالديهايد التي استخدمت لسنوات بهدف تعقيم زوار الكهف على الكائنات الحية الصديقة التي كان من الممكن أن تمنع نمو الفطريات. استلمت سير إدارة الكهف عام 2002 خلال انتشار الفطريات البيضاء بعد تركيب نظام تكييف الهواء المصمم لمنع ظهور الكائنات الصغرية المضرة. غطت الفطريات أرض الكهف وزحفت على الجدران باتجاه الحيوانات البرية المرسومة باللون البرتقالي، الأصفر، البني والأسود. تقول: «صُدمت من المشهد وكأنها كانت تثلج». خوفاً من أن تجتاح الفطريات الرسوم، سكب الخبراء مسحوق الجير الحي على الأرض ولفوا الجدران بضمادات قطنية مشرّبة بمبيدات الفطر والمضادات الحيوية. ما إن بدأت الفطريات البيضاء تختفي، أطلق العلماء مشروعاً كبيراً لتسجيل حالة كل رسم في الكهف عبر استخدام الكمبيوتر. عمل شخصان لثلاثين ساعة أسبوعياً تحت الأضواء لمراقبة مواقع نمو الفطر، التصدعات أو أية مشكلة تطرأ على رسومات الكهف كلها. من ثم ظهرت البقع السوداء متجهة مباشرة نحو الثيران السوداء والحيوانات الأخرى.تقول سير: «على الرغم من الحدّ من الوجود البشري في الكهف، إلا أن استخدام الأضواء كان مضراً على الأرجح. لم ندرك أننا كنا نخاطر بهذه الطريقة». رشّ فريق صغير من العمال المرتدين بذلات وقائية محلولاً من النشادر (الأمونيا) على البقع وأُغلق الكهف في يناير (كانون الثاني). تضيف سير: «حبست أنفاسي عندما دخل العلماء من جديد في أبريل (نيسان)».فطرياتعلى الرغم من توقف البقع السوداء عن الانتشار في تسع من بين إحدى عشرة منطقة خضعت للمعالجة، إلا أنها بقيت تشكل خطراً كبيراً على النقوش في المناطق الصغيرة الأكثر حساسية تجاه تغيرات الحرارة والرطوبة. تقول سير إن الفريق العلمي منقسم حول كيفية استكمال العمل. سيجتمع الأعضاء قريباً لتحديد عملية الاستمرار في معالجة البقع السوداء أو وضع حدّ للمزيد من التدخل.تفيد سير: «يقول علماء الأحياء المجهري وعلماء الجيولوجيا إنه يجب فهم ما يحصل أولاً وعدم التدخل، لا يوافقون على عملية المعالجة، بينما تقول مجموعات أخرى إن الخطر أكبر من أن نقف مكتوفي الأيدي». انتقدت اللجنة الدولية للحفاظ على كهوف لاسكو ما اعتبرته سنوات من عدم الكفاءة والسرية المحيطة بالعمل.تُعتبر سير من المسؤولين الفرنسيين المدرجين الذين تظهر أسماؤهم في موقع المجموعة الالكتروني www.savelascaux.org، تحت العنوان اللاذع «مَن المسؤول عن الكارثة الحاصلة داخل كهف لاسكو؟» تقول سير إنها تتفهم حالة الغضب العارمة، مضيفةً: «يخشى العالم على كهف لاسكو لأنه مغلق. لا شيء لدينا لنخبئه». كذلك تذعن للإحباط قائلة: «يخلق ما يجب فعله وكيفية الاختيار مشكلة كبيرة. ليس من السهل الإجابة عن الأسئلة. كهف لاسكو في أيدي أطباء لا يملكون التشخيص نفسه. علينا الاختيار بين التفاعل أو عدم اتخاذ أي إجراء وكلاهما خطير جداً».
توابل - ثقافات
كهوف لاسكو معرَّضة للخطر بسبب أنفاس البشر
07-07-2008