منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالملكية في العراق في 14 يوليو (تموز) 1958 وحتى تاريخ وقوع تلك العملية، كان العسكريون يحتكرون مقاعد الرئاسة، حيث توالت الانقلابات العسكرية وظهرت على الساحة وجوه عسكرية لم تلتزم بخط سياسي عام أو استراتيجية مفهومة، مما أقلق الولايات المتحدة الأميركية التي تحتفظ، منذ عام 1949، بوجود عسكري يحمي مصالحها في الخليج العربي الذي اعتبرت قاعدة شمالية لأسطولها في المحيط الهندي، وواكب ذلك تضاؤل حجم الوجود العسكري البريطاني في المنطقة، وتزايد عسكري بحري سوفياتي في المحيط الهندي، مما يستلزم على الولايات المتحدة أن تحافظ على الوجود العسكري الغربي في المنطقة، ذلك أن نصف النفط المستهلك في غرب أوروبا مصدره الخليج العربي. كذلك تعتمد القوات الأميركية في جنوب شرق آسيا وقوات حلف الأطلسي على بترول الخليج بطبيعة الحال.

Ad

أدى الصراع بين الدولتين العملاقتين في المنطقة، إلى تنافس شديد في الوجود الفعلي على أرض الواقع، عسكرياً أو سياسياً، فأغرق السوفيات العراق بالسلاح المتقدم، وملأ الخبراء الروس مدنها وشوارعها في تظاهرة شبه استعراضية، بل ووُجدت الغواصات السوفياتية بشكل دائم في المنطقة وأصبحت أحد معالم ميناء أم قصر العراقي الملاصق للكويت، حيث نالت البحرية السوفياتية حقوق استخدام التسهيلات المتوافرة هناك.

كانت إسرائيل تراقب النمو المضطرد للجيش العراقي، الذي يسلحه السوفيات بأحدث ما في ترساناتهم العسكرية، وفتحت إيران (في عهد الشاه) أبوابها على مصراعيها لضباط الموساد، بل وسمحت لهم بالعمل بحرية ضد العراق انطلاقاً من أراضيها، لذلك كانت العمليات الجاسوسية الإسرائيلية في العراق تحاك في إيران خلال تلك الفترة.

البداية حالة اشتباه

في يوم من يناير (كانون الثاني) 1966 وفي إحدى نقاط العبور على الحدود العراقية - الإيرانية، لاحظ ضابط عراقي بعيني خبير مدقق، أن حالة ارتباك تعتري أحد العابرين، فتقدم منه وسأله عن وثيقة سفره، فازداد ارتباكه، مما شجع الضابط على تفتيشه مرة ثانية بدقة, وكانت المفاجأة التي لم تخطر بباله أبداً، إذ اكتشف جيوباً سحرية في قاع حقيبته، مليئة بخرائط لمواقع عسكرية عراقية وتقارير سرية مهمة تمس الجيش والاقتصاد، انهار الجاسوس في الحال، وأخذ يصيح بالفارسية بما معناه أنه مجرد «ناقل» للحقيبة ولا يدري بما فيها.

في مكتب المخابرات العراقية في بغداد، أنكر معرفته بالشخص الذي سلمه الحقيبة، وقال إنه اعتاد مقابلته في مقهى بشارع هارون الرشيد فيتسلم الحقيبة منه وينصرف كل إلى حاله، من دون أن يعرف من هو، أو ماذا في الحقيبة؟

لم يصدقه ضباط المخابرات في بادئ الأمر، وأمام إصراره وتأكيده أقواله أدخلوه غرفة خاصة في بدروم المبنى، حيث عذِّب بقسوة ليعترف، فأقر بأنه يعمل لصالح المخابرات الإسرائيلية، وتنحصر وظيفته في الذهاب لمقابلة جواسيسها في العراق لاستلام الوثائق والعبور بها إلى إيران، وتكرر هذا الأمر في بغداد تسع مرات إلى أن قُبض عليه.

في محاولة أخرى لانتزاع أية معلومات من هذا الشخص الذي كان يدعى فجر عبد الله، حُبس في زنزانة انفرادية لأيام عدة بلا طعام أو شراب، وأوهموه بأن حكماً قضائياً سيصدر ضده خلال أيام بإعدامه، فاعترف فجر بأنه لا يعرف سوى الاسم الأول للعميل الذي سلمه الحقيبة وهو يعقوب، وتذكر اسمه لأنه بينما كانا معاً ذات مرة في مقهى بشارع هارون الرشيد، أقبل أحد الأشخاص وصافحه منادياً عليه باسم يعقوب، فأُخرج فجر من زنزانته الضيقة إلى أخرى انفرادية أكثر اتساعاً، وعرضوا عليه أن يساعدهم في التعرف الى يعقوب هذا مقابل أن يعتبروه شاهدا فحسب، فوافق فجر على العرض السخي.

منذ أن أدلى فجر باسم يعقوب، كان ثمة سباق محموم للتوصل إلى هذا العميل جاسوس إسرائيل عن طريق السجلات المدنية، التي مُسحت بالكامل في كل العراق لحصر الاسم، والحصول على صور لكل شخص عراقي اسمه يعقوب لعرضها على العميل الإسرائيلي. عُرضت عليه آلاف الصور أكثر من مرة، على مدار أيام عدة، عومل خلالها معاملة حسنة، فأطعم أطايب الأطعمة وألذها، ونام نوماً مريحاً على فراش وثير.

في اليوم السابع للبحث في الصور، تعرف فجر الى صورة يعقوب يوسف جاسم (34 عاماً) الموظف في إحدى محطات الكهرباء في بغداد، فعرضوا عليه الصورة مرة أخرى بعد خلطها بصور قريبة الشبه، لكنه تعرف الى الصورة نفسها، وفي الحال قامت قوة من رجال المخابرات بمهاجمة منزله وتفتيشه، فعثروا على وثيقة سفره التي تبين أنه سافر إلى إيران عشرات المرات، وعندما أخبرهم بأنه متزوج من إيرانية، لم يلتفتوا إليه، بل استمروا في التفتيش إلى أن ضبطوا وثائق عسكرية سرية عدة محشورة في «رجل» السرير النحاس، مربوطة بخيط رفيع يتدلى من أعلى «الرجل» الأسطوانية، التي نسي أن يضع عليها غطاءها كالأرجل الثلاث الأخرى.

استمرت عملية التفتيش بدقة متناهية، بمعرفة خبراء المخابرات الفنيين، الذين اكتشفوا مخبأً سرياً في غلاف مجلد كبير عن الشاعر معروف الرصافي يحوي رسائل باللغة الفارسية، عبارة عن أوامر من ضابط الارتباط الإسرائيلي في ميناء عبدان الإيراني، يطلب منه موافاته بتقارير وأخبار عن الأسلحة السوفياتية الجديدة التي تصل إلى العراق، وكذلك عن الغواصات السوفياتية الكامنة في قاع منطقة «أم قصر» المتاخمة لحدود الكويت، وحظائر طائرات «توبولوف ـ 22» الحربية المهاجمة، وعددها، والمطارات الحربية الموجودة فيها، ومعلومات تفصيلية عن الطائرة ميغ ـ 21 وعدد طياريها والمطارات الموجودة فيها، والخبراء السوفيات في العراق.

شاطئ المرح

كان يعقوب يوسف جاسم شابا مثل كل شباب الدنيا، تراوده أحلام العظمة، ويحاول بشتى الطرق أن يعوض فشله الدراسي، فلم يكن يحمل سوى الشهادة الإعدادية التي حصل عليها بشق الأنفس، وعلى رغم ذلك لم تفارقه أحلامه وهواجسه التي سيطرت عليه، وبعد ما استقر به المقام في عمله بمحطة كهرباء بغداد، استشعر تفاهته، وغامت حوله الرؤى، فالواقع الذي يعيشه لا ينبئ أبداً بضربة حظ تخرجه من واقعه المرير، أو تصعد به إلى قمم الوجاهة والعظمة.

في يوم من سبتمبر (أيلول) 1963، حزم جعفر حقيبته وعبر الحدود إلى إيران لقضاء أسبوعين على شاطئ بحر قزوين، فهي منطقة تتميز بمناظرها الطبيعية الخلابة، التي تمتد من جبال البورز إلى البحر، وتسقط أمطارها صيفاً لتجعل الطقس ندياً رائعاً، حيث شواطئ أستارا ورامر وموانئ بندر بهلوي وبابلر ونوشهر، فتبدو الإجازة في تلك المنطقة كأنها رحلة إلى كوكب آخر، وحينما وصل إلى شاطئ رامر، أذهله جمال الفاتنات، فقبع صامتاً تحت إحدى المظلات يتأمل ويبكي حاله بصمت.

اقترب منه من دون أن يشعر رجل وألقى عليه التحية بالفارسية، لكنه أفهمه أنه عراقي، فرحب به وعرّفه بنفسه قائلاً إنه لبناني واسمه مازن يقيم في طهران ويعمل بالاستيراد والتصدير، وبعد برهة أقبلت سكرتيرته الإيرانية «زالة»، فغاص يعقوب في ارتباكه وهي تصافحه مرحبة، ودعاه مازن الى العشاء معه في فيلته المطلة على الشاطئ، وأقبلت زالة كعروس من السماء، بصحبتها إيرانية أخرى تدعى كوكوش والاثنتان تتحدثان العربية بطلاقة.

بعد العشاء، ألمح إليه مازن أن كوكوش وقعت في هواه، وبدا ذلك واضحاً من نظراتها واهتمامها الزائد به، وحين همّ يعقوب بالانصراف إلى الفندق، أصر مازن على أن يبيت معه، وكانت نظرات كوكوش ترجوه أن يبقى، وجلست إلى جواره تلاطفه فأذهبت بقية ما لديه من وعي، ثم صحبته إلى حجرة علوية، وأغلقت بابها من الداخل، وفعلا ما فعلا من دون أن يدرك أن ثمة كاميرات تصوّر وأجهزة تسجل الأحاديث السياسية، وتنقل كل شيء إلى حجرة مازن واثنين من ضباط الموساد.

تكررت السهرات، فأيقظت هواجس يعقوب مجددا عندما عرضت عليه عميلة الموساد الانضمام إلى أسرة العاملين في شركة مازن، سألها كيف؟ أجابته بأن الشركة تبحث إقامة فرع آخر في بغداد، وكي يتحقق ذلك، لا بد من معلومات وافية عن الاقتصاد العراقي وحركة التجارة، وبيده كتب صفحات عدة تتضمن معلومات كثيرة تشمل نواحي اقتصادية تافهة من خلال قراءاته في الصحف، وفوجئ بقبوله للعمل كمدير لفرع بغداد!

المخزن رقم 3

انتهت مهمة كوكوش عند ذلك الحد، ورحلت إلى طهران بعد انقضاء المرحلة الأساسية، أما يعقوب فعاد إلى بغداد كشخص جديد، متقمصاً دوره كرجل أعمال مهم، في جعبته 1200 دينار عراقي، مرتب ثلاثة أشهر مقدماً، وكان وفياً جداً لأستاذه ورئيسه مازن، إذ لم يفصح لمخلوق عن مهمته، أو عما حدث له على شواطئ بحر قزوين، وانخرط في جمع المعلومات عن أحوال السوق العراقية واتجاهات النمو الاقتصادي في شتى المجالات.

بعد خمسة أشهر، سافر جعفر ثانية إلى طهران، يحمل هذه المرة تقارير اقتصادية متنوعة ويحدوه الأمل في أن يصبح ذات يوم من أشهر رجال التجارة في بغداد. عندما قابل مازن، عرفه الأخير بإيراني اسمه عبد نابلون، اصطحبه إلى فندق كبير في شارع ورزش شمالي بارك شهر في طهران، وشرع في كشف ما لديه من أخبار وتقارير، لكن عندما اتجه نابلون بالحديث إلى السياسة والشؤون العسكرية والتسليح، أظهر يعقوب جهله وعدم اهتمامه، وعندما أحس نابلون بأن الوقت مناسب تماماً لمهمته، فاجأ يعقوب بالحقيقة، حقيقة أنه يعمل لصالح الموساد، ولا بد له من استثمار كل معلومة ولو كانت تافهة، ما دام سيحصل على ثمنها.

صُعق يعقوب ولُجم لسانه، لقد سقط في براثن الموساد وعبثا حاول أن يفك قيود العنكبوت التي كبلته، لكن نابلون كان واثقاً من نفسه ومن قدراته ومواهبه في الاخضاع لدرجة الطاعة، فالصور العارية والتقارير التي كتبها بخط يده، كفيلة بأن تسكت صدى الرفض عنده لأن الإعدام في بغداد ينتظره إذا لم يذعن، ولم يكن أمام يعقوب إلا الإذعان.

جاءته في تلك اللحظة فتاة تدعى فروزندة وثوقي، كانت الملاذ الحنون الذي يحوي انفعالاته ويمتص غضبة الخوف الجاثم فوق حياته، فتحدث معها طويلاً، وصارحها برغبته الملحة في الزواج منها، وساعدته أموال الموساد في الارتباط بالفتاة التي دُست عليه، والعودة بها إلى العراق، وبذلك الزواج فُتحت أمامه أبواب الدخول إلى إيران في أي وقت، وضمن الموساد بزواجهما تدفقاً كبيراً في حجم المعلومات التي سيحصل عليها، فالعميلة هنا هي الزوجة، وكانت بدورها مدربة تدريباً عالياً على القيام بمهام تجسسية معقدة لصالح الموساد.

في بغداد، بدأ يعقوب يمارس مهمته في استكشاف أسرار الأسلحة التي تمد بها العراق والأردن، أنواعها وأعدادها ووسيلة نقلها إلى عمان، وعجز الجاسوس في بداية الأمر عن التوصل إلى أية معلومات، حتى تقابل مع العريف نوري سوار، المجند في إحدى القواعد العسكرية، فأغراه بالمال، وبطرق مختلفة حصل منه على قوائم كاملة بالمعدات التي زوِّدت بها الأردن.

النقيب رافع

بدأ يعقوب وزوجته معاً في البحث عمن يجيء بأسرار المخزن رقم 3 في بغداد، فأمر هذا المخزن حيّر الموساد كثيراً، وفشل جواسيس كثر سابقا في استجلاء سرّه، وكانت خطة فروزندة تتلخص في التعرف الى أحد الضباط العسكريين بطريق الصدفة في شوارع بغداد، ثم تسأله عن مكان ما بلغة عربية ركيكة، فيضطر الضابط إلى إرشادها، ويحدث بينهما تعارف أثناء السير، وخرجت لتتصيد ضحيتها الأولى، وكان ضابطاً برتبة نقيب اسمه أحمد رافع، ما إن استوقفته لتسأله عن أحد الشوارع، حتى سارع الى مرافقتها بأدب، وخلال الطريق حدث تعارف بينهما، وعندما أوصلها إلى المكان المطلوب، كان زوجها ينتظرها كما خططا لذلك، فشكر الضابط الشاب لشهامته وأصرّ على أن يقبل دعوته للزيارة!!

بعد أيام، طرق رافع الباب ليجد فروزندة وحدها، و{ادعت» أن زوجها سافر إلى الموصل لأيام عدة، ولما همّ بالانصراف ألحت عليه أن تقدم له واجب الضيافة، وبالفعل قدمت له جسدها، فكان سرعان ما يحن لوجبة ثانية ثم ثالثة، هكذا أوقعت به في شباكها، فسلمها ملفاً كبيراً يحوي كل أسرار المخزن رقم 3!!

كانت مكافأة يعقوب ألفين وخمسمائة دينار، ومثلها لفروزندة، أما أحمد رافع فأصيب بحالة اكتئاب شديد بعدما أفاق إلى نفسه، وأحس بالجرم الذي اقترفه ضد بلده، وامتنع عن زيارة فروزندة، فاستشعرت عميلة الموساد الخطر إذا ما تطورت حالته النفسية سوءاً، وأقدم على الانتحار في لحظة ضعف، تاركاً رسالة تقودها إلى حبل المشنقة، فأرسل لها نابلون بسم السيانيد القاتل لتتخلص منه، حيث أخذه يعقوب وذهب لزيارة رافع الذي قابله بغضب، فغافله الخائن ووضع له السيانيد في العصير، ولما ظهرت أعراض التسمم غادر يعقوب المنزل، وفي اليوم التالي مشى في جنازة ضحيته.

العقيد جاسر

بمقتل النقيب رافع، اطمأن يعقوب وزوجته ونضب معين المعلومات العسكرية لديهما، لذا فكرا في البحث عن ضابط آخر من «الكبار» يسهل إغواؤه، وتنهمر الأسرار منه.

بينما العقيد جاسر عبد الراضي جالس في سيارته العسكرية المعطلة، بانتظار سائقه الذي يبحث عن سيارة أخرى تجرها، اقتربت منه سيدة فائقة الجمال، تنزلق من عينيها الدموع السخية، وبلغة عربية ركيكة، توسلت إليه السيدة أن يحميها من زوجها العراقي الذي لا يكف عن ضربها، ولأنها إيرانية غريبة لا تعرف ماذا تفعل، طلبت منه مساعدتها لتعود إلى إيران ، فغادر الرجل سيارته مشفقاً عليها وقد أدهشه جمالها الآخاذ، ووعدها بأن يصحبها لبيتها ليتحدث مع زوجها.

انكمشت فروزندة بجوار الضابط الشهم وقد لفها الخوف، وحين وصلا إلى المنزل، قابله يعقوب باحترام شديد وقص عليه حكاية مغلوطة اتفقا عليها مسبقا، فتعهد الضابط بحماية المرأة الأجنبية لما رأى خضوع يعقوب له، وأقسم على أن يساعدها في العودة لأهلها إذا ما عاد لسيرته الأولى معها.

بعد أيام عدة، عاد الضابط لزيارتهما فاختفى يعقوب من البيت، وبدأت فروزندة خطوتها الثانية، بأن أكدت له أن وجوده إلى جوارها خفف كثيراً من سلوك زوجها المعوج معها, وشكرته لشهامته، وبعيني أنثى خبيرة، أدركت أنها قطعت خطوة مهمة للإيقاع به. بعد زيارات عدة لم يستطع المقاومة، وأفصح صراحة عن رغبته فيها عندما احتواها بين يديه، فأخذ يبثها حبه وهيامه، متناسياً كل شيء في سبيل الوصول إليها.

لقد باع وطنه لأجلها، ولم يبخل بإفشاء أسرار الجيش العراقي، عندما سلم لعميلي الموساد أسراراً خطيرة عن الطائرة السوفياتية توبولوف ـ 22، التي تعد الأحدث قياساً بقاذفة القنابل الأميركية ب-52 وأمدها بوثائق مهمة، تتعلق بالمخزون الاستراتيجي من الذخيرة، وكشوف بأعداد الدبابات تي 62، وحصر عام لبنادق «برنو» التشيكية، ورشاشات «دوشكا» و{كلاشيكوف»، وأيضاً رشاشات «سينا» الصينية.

كان العقيد جاسر عبد الراضي من أسرة عسكرية، تتزاحم بالمناصب والرتب، لذلك كان يفخر دائماً بأنه يعلم بأسرار الجيش العراقي، حيث تصب كلها أمامه من خلال أقاربه العسكريين وزملائه في المواقع المختلفة، فأمدها أيضاً بوثائق أخرى عن نظام الجيش العراقي، أفرعه، قياداته، تشكيلاته، تسليحه، وخرائط سرية عدة عن المطارات العسكرية والقواعد الجوية الاستراتيجية والهيكلية ونظام العمل بها، ذلك كله مقابل فروزندة وحبها.

اكتشفت فيه فروزندة حبه الشديد للتباهي بنفسه والتفاخر بمنصبه العسكري في الدفاع الجوي، وعشقه للنساء، لذلك، فهو ينفق راتبه على نزواته ويعيش دائماً مديوناً... هارباً من دائنيه، واكتشفت أيضاً ما هو أهم من ذلك، قلة وازعه الوطني وسخطه على الحياة في العراق، يترجم ذلك سبّه الدائم لقيادات حكومته وانتقاده العنيف لهم.

نظراً الى زواجه من إيرانية، اعتاد يعقوب السفر إلى إيران مطمئناً، حاملاً معه أدق الوثائق العسكرية السرية، خلافاً لوثائق أخرى كان يجلبها له عميل آخر اسمه عزاوي الجبوري.

هكذا استمر يعقوب يعمل في خدمة الموساد بمعاونة زوجته، مندفعاً بكل طاقته غير عابئ بالعواقب، تخيّم على عقله غيمة كاذبة من الوهم والثقة، حتى ألقي القبض على أعضاء الشبكة التسعة في يناير (كانون الثاني) 1966، ووقتها بدأ الخوف يتسلل إلى أوصاله، وكثيرا ما جلس ينتظر مصيره المجهول.

حدث ما توقعه... في فجر 2 فبراير (شباط) 1966، وبينما يعقوب وفروزندة في حجرة نومهما، تطرق إلى سمعهما وقع عشرات الأقدام تحيط بالمنزل.. هبت فروزندة مذعورة إلى أحد الأدراج، وفي اللحظة التي تهشمت فيها الأبواب واندفع سيل من الرجال، ابتلعت فروزندة كل ما بقي في أنبوب سم السيانيد، أما يعقوب فكان مستسلماً للقيود الحديدية التي كبلت معصميه، ينظر إلى فروزندة هلعاً وقد جحظت عيناها وارتعشت أطرافها قبلما تهوي إلى الأرض، لقد نفذت العميلة حكم الإعدام في نفسها بنفسها.

نفّذ حكم الإعدام بيعقوب شنقاً في سجن بغداد المركزي في ديسمبر (كانون الأول) 1966، بعد محاكمة استمرت عشرة أشهر، أما عزاوي الجبوري، فأُلقي القبض عليه أثناء هروبه إلى الأردن، وكان هو الذي شهد ارتعاشة أطراف زعيمه يعقوب على حبل المشنقة، بدلاً من فروزندة، أما العقيد جاسر عبد الراضي فانتحر برصاص مسدسه الميري في منزله، ونال فجر عبد الله حكماً بالأشغال الشاقة المؤبدة.