قاتل «حزب الله» طويلاً ضد العدو الإسرائيلي. لكنه اليوم دخل أكثر حروبه الداخلية خطراً، ذلك أن هذه الحرب تقع اليوم في الداخل اللبناني، ولو سيطر «حزب الله» على البلد وتحكم بمفاصله كافة، فإن ذلك لن يحسن شروط معركته ضد إسرائيل، ذلك أن الدم الذي يراق في الداخل له أثمان مرتفعة وباهظة جداً بالنسبة للبنانيين. لنسلم جدلاً أن «حزب الله» سيطر على لبنان من أقصاه إلى أقصاه، وتالياً أصبح البلد برمته يتنفس هواء إيرانياً- سورياً. فهل يستطيع هذا البلد أن ينعم في ظل هذه السيطرة بالأمان والاستقرار؟ هذه الأمنية غالية على قلوب اللبنانيين كثيراً وهم من أجل تحققها دفعوا غالياً ولمرات لا تحصى أثماناً في السيادة والحرية، والأمن أيضاً وفي أحيان كثيرة. بل إن بعض حروب لبنان السابقة كانت تقوم من إحدى ضفافها على هذا الشعار: فصل لبنان عن أزمة الشرق الأوسط التي أصبحت اليوم أزمات متشابكة. وفي وسع أي كان أن يسأل اليوم سؤالاً ساذجاً: أي أزمة بالضبط يريد «حزب الله» والمعارضة أن يربطا البلد بها؟ أهي الأزمة الناشبة على مناطق النفوذ الإقليمية بين دول المنطقة الكبرى؟ أم أزمة التوتر السني- الشيعي، التي قد تشهد كراً وفراً كثيرين قبل أن تستقر على حال واضحة المعالم؟ أم أزمة الشرق الأوسط الأم المتعلقة بالصراع العربي– الإسرائيلي، الذي هو بدوره شهد تبدلات لا تحصى وتغير لاعبوه مراراً؟ أم أنها أزمة النظام العالمي الجديد الأحادي القطب، والتي يبشرنا الرئيس الإيراني أحمدي نجاد بأنها إلى زوال؟ أم أنها هذه الازمات جميعها دفعة واحدة؟الأرجح أن استقراء مآلات كل أزمة من هذه الأزمات يوضح أن الاستقرار اللبناني بات بعيد المنال. وأن الدخول في صلب واحدة أو أكثر من هذه الأزمات يرهق البلد ويحمّله ما يفوق طاقته وما يفيض عن قدرته على الاحتمال. فكيف حين يكون الحال كحال اللبنانيين المتعبين والمهزومين هزائم متتابعة؟جرّب لبنان الدخول في أزمة الشرق الأوسط من بابين متناقضين داخلياً وخارجياً. فاقتطعت المقاومة الفلسطينية في ستينيات القرن الماضي جزءاً من جنوب لبنان سُمي يومذاك «فتح لاند»، ونشطت فيها، حيث كانت تفترض أن بوابتها اللبنانية الأفضل يجب أن تمت بصلات وثيقة للسنية السياسية العروبية التوجه والمزاج. ودخله من بوابة ثانية، ما إن تعاظمت القوة الفلسطينية، على النحو الذي أدى إلى نشوب ثاني حروب لبنان الأهلية في سبعينيات القرن الماضي، حين اختار شطر أساسي من المارونية السياسية تقديم مساهمته في الصراع العربي- الإسرائيلي من بوابة الجيب الماروني في جنوب لبنان، وتالياً الاستقواء بإسرائيل على الخصوم الداخليين والخارجيين من أجل تحييد لبنان عن مفاعيل هذه الأزمة. وذلك بعدما فشل المجتمع الدولي يومذاك في تحييد لبنان. اليوم يشهد لبنان فصلاً جديداً من فصول هذه الأزمة. لكنه مكرر إلى الحد الذي يجعل هذه السبل العنيفة التي يختبرها لبنان أشبه ما يكون بقدره الذي لا راد له. فهذا البلد محكوم بأنه لا يستطيع أن يقيم سلاماً مع إسرائيل، حتى لو حرر أرضه حتى آخر حبة تراب. لذلك تبتزه إسرائيل دائماً بتطلب السلام، وغالباً ما تشن حروبها عليه بحجة إرادة السلام. وهذا البلد لا يستطيع أن يعلن حرباً على سورية، مهما جارت عليه، لذلك هي تبتزه بتطلب الحرب، وغالباً ما تشن حملاتها عليه بدعوى أنه الخنجر الذي يطعن خاصرتها. وهذا البلد أخيراً لا يستطيع أن يحتمل كلفة الحرب مع إسرائيل ولا السلام مع سورية. لذلك يبدو دائماً كما لو أنه منذور لحروبه الداخلية. فبهذه الحروب الداخلية يستعيض أو يؤخر تلك الحروب الخارجية، مع أنها دائماً تحدث، ومع أنه لا ينجح برد الحروب الخارجية ودفع نذرها بحروبه الداخلية. قاتل «حزب الله» طويلاً ضد العدو الإسرائيلي. لكنه اليوم دخل أكثر حروبه الداخلية خطراً، ذلك أن هذه الحرب تقع اليوم في الداخل اللبناني، في الوقت الذي لا يستطيع فيه «حزب الله» الاستمرار في حروبه الخارجية، لأسباب كثيرة ومتشعبة، ذلك أن مثل هذه الحرب لا يمكن أن تنحصر في جبهة لبنانية مهملة ومنذورة لتقديم القرابين، على ما توضح إسرائيل من دون لبس، مما يعني أن أي حرب مع إسرائيل قد تطاول بالخطر المباشر الهواء الذي يتنفسه «حزب الله». والحال، لو سيطر «حزب الله» على البلد وتحكم بمفاصله كافة، فإن ذلك لن يحسن شروط معركته ضد إسرائيل. ذلك أن الدم الذي يراق في الداخل له أثمان مرتفعة وباهظة جداً بالنسبة للبنانيين. وقد لا يكون في إمكان أي كان أن يتحمل وزرها، حتى العدو الإسرائيلي نفسه.*كاتب لبناني
مقالات
أوزار الدم
10-05-2008