تأليف: مأمون فندي

الناشر: دار الساقي

Ad

صدر لدى «دار الساقي» الطبعة الأولى من كتاب «حروب كلامية: الإعلام في السياسة في العالم العربي»، للكاتب مأمون فندي. يعالج أسئلة عدة تتعلق بالمؤسسات الإعلامية في العالم العربي من بينها: من يملك هذه المؤسسات ومن يملك قراراتها؟ وماذا وراء الحروب المستعرة على غير جبهة إعلامية عربية؟ وهل يعتبر تكاثر القنوات الإخبارية دليلاً على عافية سياسية متنامية في العالم العربي؟ وإلى أي حد يؤثر الإعلاميون في المؤسسات العربية في تقديم الخبر أو صياغة التقرير؟ وما الجديد الذي جاءت به القنوات الغربية الموجهة إلى المشاهد العربي؟

يأخذ الكتاب أهميته من كونه يستند إلى دراسة ميدانية معززة بالوقائع والأرقام حول واقع الإعلام العربي الراهن، هي الأولى من نوعها من حيث الدقة والشمولية. يرى الكاتب أن الجدال حول الإعلام العربي أصبح أيديولوجياً أكثر منه علمياً حول ماهية الإعلام ودوره، ويهدف الكتاب إلى تصويب هذا الجدل نظرياً ومعلوماتياً وتوجيهه وجهة علمية لا أن يكون مجرد دعاية فجة للإعلام العربي أو ضده، ولا بد من دراسة معمقة لحالة قناة «الجزيرة» من حيث البرامج التي تقدمها وطريقة عرضها للأخبار وعلاقتها بالحكومة المالكة لها لتقويم أدائها تقويماً علمياً.

يلفت أفندي إلى أن الاعتماد على النظريات الغربية المعاصرة حول الإعلام ليس كافياً لبناء أطار لفهم قنوات «الجزيرة» أو «العربية» أو «المنار»، التي تشكل ثلاثة كيانات مستقلة ومتميزة بعضها عن بعض في عالم وسائل الإعلام العربية الإخبارية، ويعرض المؤلف النماذج الثلاثة التي أوردها هالين في كتابه «مقارنة الأنظمة الإعلامية»: نموذج إعلامي تجاري مسيطر في أميركا الشمالية وبريطانيا، نموذج تشاركي سائد في أوروبا الجنوبية، حيث يجمع الإعلام بين الوسائل الإعلامية التجارية وتلك المرتبطة بمجموعات اجتماعية وسياسية مختلفة، نموذج ثالث هو السائد في أوروبا الجنوبية والمتجسد في إسبانيا وإيطاليا حيث للأحزاب السياسية والدولة دور نافذ. لكن هذه القنوات الثلاث لا تندرج في أية من هذه الفئات، ويُعزى السبب في ذلك إلى واقع أن دولة قطر التي اتخذت منها قناة «الجزيرة» مركزاً لها ليست الولايات المتحدة ولا فرنسا ولا تشبه إسبانيا أو إيطاليا.

الجزيرة

كذلك يرى الكاتب أنه لا يمكن اختزال الإعلام العربي بقناة «الجزيرة»، ولا سيما أن الجهات المشغلة لوسائل الإعلام الإخبارية العربية تتمثل بدول أو وكلاء عن دول أو مجموعات أيديولوجية أو دينية أو إثنية، فعلى سبيل المثال تعود ملكية قناة «العربية»، التي تعتبر المنافس الرئيس للجزيرة في مجال الأخبار في المنطقة، إلى وكيل عن الدولة السعودية، في حين أن قناة «المنار» يملكها «حزب الله» ويديرها، ومع أن فهم هذه المسائل كلها يسمح للمرء بتبيان بعض من خصائص الإعلام العربي، إلاّ أنه لا يكفي لبلورة نظرية أو نموذج عن هذا الإعلام. وما يحاول الكاتب فعله في هذا الكتاب هو اقتراح منهجية جديدة للتفكير في دراسته، تهدف إلى تحرير الجدال حول وسائل الإعلام العربية من هاجس العلاقات الرأسية «الشرق مقابل الغرب» ونقله إلى حوار داخل الشرق نفسه. وذلك أن التركيز على «الشرق مقابل الغرب» يدفع إلى تركيز الاهتمام على قناة «الجزيرة»، أما التركيز على «الشرق ضد الشرق» يدفع إلى التركيز على دراسة قناة «العربية» كصوت سعودي ضد «الجزيرة» صوت قطر.

يضيف الكاتب أن الأمر الأساسي هنا هو أن الإعلام العربي محكوم بهذه العلاقات الأفقية بين الدول العربية ذاتها أكثر من كونها محكومة بكراهية الغرب كما يتصور البعض، ويكشف التمعن في علاقات القوى في المنطقة أن المحركات الأساسية للإعلام العربي هي محلية في المقام الأول (قطر ضد السعودية أو لبنان ضد سوريا أو الموارنة ضد الشيعة وغيرها). تجعل بلورة هذه النظرية البديلة أي نقاش حول الإعلام العربي أكثر ثراء وأقدر على تغذية التنظير العام حول «الإعلام العربي».

وحسب الكاتب، إن التركيز على دراسة الفضائيات الإخبارية العربية، مثل «الجزيرة» و»العربية» ومحاولة مقارنتها بشبكات التلفزة الغربية مثل شبكة «السي إن إن» أو «فوكس نيوز» هو تضليل لأي باحث يحاول فهم المحركات السياسية للإعلام العربي. إذ لا يمكن فهم هذين القناتين إلا من خلال الخلافات السياسية بين السعودية وقطر وبين كل من قطر والسعودية والبلدان العربية الأخرى، ولفهم هذه المسألة لا بد من استرجاع التاريخ لرؤية كيف كان لإذاعة «صوت العرب» التي أطلقها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في ستينات القرن العشرين دور فاعل في تشكيل الصراع المصري - السعودي وكيف أن قناة «الجزيرة» تبنت نسخة مرئية عن إذاعة صوت العرب. ويتابع أفندي بأنه سيوضح في كتابه هذا كيف تعمل المؤسسة اللبنانية للإرسال «إل بي سي» وقناة «المستقبل» وغيرهما من المؤسسات الإعلامية اللبنانية في سياق الصراع الإثني والديني في لبنان بين الموارنة والسنة، وبين الشيعة والسنة، وبين القوى الموالية لسوريا وتلك المناهضة لها.

وعلى الرغم من ادعاء بعض المحطات الفضائية باستقلاليتها، تبقى الدولة هي اللاعب الرئيس في تشكيل الإعلام العربي وليس قوى السوق. كذلك تشكل رؤية الدول الأخرى عاملاً مهماً، فعلى سبيل المثال ما زالت دول عربية تنظر إلى قناة «الجزيرة» باعتبارها جهازاً تابعاً لدولة قطر، وعلى ذلك يكون الرد على أي انتقاد من قبل «الجزيرة» رداً من دولة على دولة وليس من دولة على وسيلة إعلامية، ففي العام 2002 استدعت المملكة العربية السعودية سفيرها في قطر كرد على كثرة البرامج المناهضة للمملكة التي بثتها، كذلك استدعت الأردن سفيرها في الدوحة في العام نفسه رداً على ما اعتبرته اهانات تنال من العائلة الهاشمية الحاكمة أُطلقت عبر هذه القناة.

العربية

يخلص الكاتب إلى أن وسائل الإعلام العربية سياسية بطبيعتها وهذا ما ثبت في حالتي الجزيرة والعربية، أسِّست هاتان المحطتان لأغراض سياسية وكرد فعل على المخاوف الأمنية التي ساورت المملكة العربية السعودية وقطر، الواحدة تجاه الأخرى وتجاه القوى الإقليمية الأخرى، وفي حالة لبنان تجلت شبكات المجموعات الإتنية والسياسية والدينية التي تحكم وسائل الإعلام اللبنانية في تغطية جريمة اغتيال الرئيس الحريري. وتتمثل إحدى الخصائص الهامة التي تميز وسائل الإعلام العربي بواقع أن هذه الوسائل لا تعمل حسب المفاهيم الغربية لوسائل الإعلام الخاصة، ففي البيئة السلطوية اجتماعياً وسياسياً التي تحكم العالم العربي، وبالتالي العالم الإسلامي، لا يجوز فهم الإعلام من خلال تقسيمه إلى إعلام خاص مملوك لأفراد أو شركات مقابل إعلام تملكه دول وحكومات. وفي الإعلام العربي لا يكون مالك الوسيلة الإعلامية هو نفسه الشخص المسؤول، فقد يكون مجرد واجهة. ويضيف الكاتب أن وسائل الإعلام الفضائية العربية تشكل على وجه الخصوص عالماً يبقى خاضعاً إلى حد بعيد للحكام والدول من خلال الروابط المباشرة وغير المباشرة على السواء، ولا يمكن تبيان هذه الميزة في هذه الوسائل من دون تعديل طريقة التفكير في العلاقة بين الخاص والعام، الروابط العائلية والإثنية.

أما المسألة الأهم التي يود الكاتب نقلها من خلال كتابه فهي أننا لا نستطيع فهم وسائل الإعلام العربية بمعزل عن شبكة العلاقات الاجتماعية والسياسية التي تحدد ما يشكل موضعاً للتقرير أو الحديث في الصحيفة أو عبر شاشات التلفزة، وفي الشبكات الاجتماعية يلحظ أفندي بعض الثوابت الحرجة التي تحدد طبيعة البرامج والتغطية التي نجدها، وتشكل ملكية وسيلة الإعلام العربية إحدى هذه الثوابت، فبمقدور «الجزيرة» مثلاً أن تنتقد أية دولة أو حكومة عربية، لكنها لا تستطيع الإدلاء حتى بالتعليقات الأقل حدة تجاه مالكيها، أي دولة قطر وحكومتها. والأمر نفسه ينطبق على العربية التي تعود ملكيتها إلى السعودية. وأكثر من ذلك حتى القنوات التي تبدو خاصة وتعمل في بيئة شبه ديمقراطية كلبنان، مثل «المستقبل» التي تعود ملكيتها لآل الحريري، قادرة على انتقاد مختلف القوى السياسية في لبنان باستثناء ممارسات أصحابها، وتتجسد العلاقة في الولاء للمالك، سواء كان شخصاً أو حكومة أو تنظيماً سياسياً.

يضيف المؤلف أن الصحافيين، باعتبارهم يشكلون قوة عابرة للحدود الوطنية، يؤثرون في نوع التقارير التي نشاهدها في وسائل الإعلام العربية، فولاءاتهم الأيديولوجية والوطنية والإثنية تؤثر في طريقة صياغتهم للتقارير التي يبثونها، وعلى سبيل المثال نجح الإسلاميون في اقتحام عالم الإعلام العربي من خلال إمكاناتهم كصحافيين أو معلقين أو ضيوف منتظمين في البرامج الحوارية، استطاعت جماعة الإخوان المسلمين توفير منتدى راسخ لأفرادها في «الجزيرة» من خلال مراسلين ومعلقين متعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر.

أجهزة

علق كثيرون في العالم آمالاً على القوة التغييرية لهذه الوسائل في ما يتعلق بالمجتمعات والأنظمة السياسية، لكن أفندي يعارض هذا الرأي ويعتبر أن تأثيرها في تغير المجتمعات الشرق أوسطية يبقى في أفضل الحالات عند حده الأدنى ويتغير الخطاب الذي يبث عبر الشاشة، أما عملياً، تبقى الدول وأجهزتها الأمنية محصنة جيداً. ولهذا التأثير أسبابه عند الكاتب كانعدام الثقة بين هذه الوسائل وجمهورها بفعل تراكم التجارب السابقة. ففي العام 1967، أخبرت وسائل الإعلام العربية العالم العربي بأن الجيوش العربية كانت تسحق الإسرائيليين. ويستدرك الكاتب ليقول أن هذه الوسائل لا تشكل حالة ميؤوس منها، لكنه نوع من السذاجة أن نشاهد الصور على الشاشات ونتوقع تغييراً مماثلاً حدث على أرض الواقع، ففي البداية لا بد من تغيير القوانين وتوسيع فضاء الحرية وتقليص دور الدولة البوليسية قبل التحدث عن أي تغيير حقيقي.

ويحاول الكاتب أن يبين في كتابه أن السبب في ذلك هو أن المصالح المحصنة التي تقبض بإحكام على المجتمعات العربية هي نفسها التي تتحكم بوسائل الإعلام، والنقطة النظرية الأوسع التي يرمي إليها هي أنه يجدر بعلماء السياسة والمنظرين في الإعلام الذين تبنوا حطاب العولمة الذي يقول بتدهور دور الدول، وربطوا بين الاستخدام التكنولوجي في المجتمعات وتطورها، أن يدرسوا هذه الحالات بعناية ليعيدوا النظر في مواقفهم النظرية ويراجعوا ما وصلوا إليه من نتائج تجريبية.