Ad

«المبدع الذي يحتاج إلى ناقد يعلمه أصول فنه محكوم بالفشل عاجلاً أم آجلاً، والناقد الذي ينساق مع مثل هذا المبدع ناقد ضل الطريق»... هكذا يطلق الناقد الأدبي د. محمود الربيعي أحكاما صريحة وواضحة عبر كتابه الصادر حديثاً في عنوان «في حدود الأدب» عن سلسلة كتابات نقدية تابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة، ويعلل المؤلف أحكامه تلك بإطلاق تساؤل في مقدمة الكتاب هو: لمن يكتب الناقد؟ ويجيب: «أيكتب لأقرانه وهم يعلمون ما يعلم، أو يكتب ليقوِّم عمل المبدع فيساعده على تطوير مهاراته، أو يكتب للقارئ ليساعده على تطوير المزيد من الوعي بالنص الأدبي».

يؤكد الربيعي أن الناقد في الأصل أحد القراء، لكنه قارئ مدرب تكونت لديه خبرات كمية ونوعية بالنصوص الأدبية والنظريات التي طورها أمثاله على مدى التاريخ وفي شتى الثقافات. وهو قارئ موهوب يتمتع بحساسية خاصة نحو النصوص الأدبية باستيعابها وتمثيلها على نحو صحيح، وتكوين مجموعة صالحة من ألوان التحليل المنهجي المقنع والوصف الواضح الذي يقدم إلى القارئ غير الناقد على نحو جذاب يجعله راغباً في المزيد من قراءة الأدب والتمتع به وتعديل عاداته وتقاليده وألوان رؤيته طبقاً لما تهديه إليه قراءاته الأدبية. وبذلك يساعد الناقد في إيجاد نوع من قراء الأدب ينتشرون على رقعة واسعة في الحياة ويعيدون تشكيل قيمتها على نحو أفضل من دون وصاية من الناقد بل باستجابتهم لما يختارونه هم نتيجة لثقافتهم الأدبية التي كان الناقد واحداً ممن ساعدوهم على تحصيلها.

عمل الناقد

يشير المؤلف الى انه «ليس من عمل الناقد أن يجلس في عليائه مصدراً أحكاماً ينقصها الدليل في معظم الأحيان على الأعمال الأدبية بالجودة أو الرداءة. وليس من عمله أن يتوجه إلى الكاتب المبدع مادحاً أو شاتماً وموجهاً، أن عمله بالأحرى تحليل النص بوصفه وشرحه وتقديم أقصى ما يحتمله من بدائل المعاني وبيان قيمته وما أضافه إلى جملة الأعمال التي ينتمي إليها العالم وطول التاريخ. أحسن المبدعون صنعاً حين اعترفوا دائماً، من بينهم المبدعون العرب أمثال نجيب محفوظ ويوسف إدريس، بأنهم استفادوا قليلاً من النقاد في مسيرتهم الأدبية، لكن ذلك لم يلقن نقادنا الدرس الواجب، فهم ماضون في ما يفعلون في رفع من يريدون رفعهم إلى عنان السماء وخفض من يريدون خفضهم إلى حضيض الأرض».

ويرى الربيعي في كتابه أن الناقد الحق يكتب للقراء ويساعد غيره على فقه العمل الأدبي وليس هو ذلك الإنسان الذي يتحدث إلى الآخرين حاملاً الصولجان ولا ذلك الذي يتحول إلى طائفة أو «شلة» فينصرهم ظالمين أو مظلومين على طريقة الجاهلية الأولى ولا ذلك الذي يضيق دائرة المعرفة فيلوي أعناق النصوص الأدبية لتوافق مذهبه أو معتقده, فالناقد الحق هو الذي يفتح من الأبواب أكثر مما يغلق ويعرض من البدائل في المعاني والأساليب التي يشتمل عليها النص الجيد ما يساعد على بقاء هذا النص صالحاً للقراءة ما بقي قارئ مهتم بالأدب على وجه هذه الأرض.

وفي قسم من الكتاب يتناول المؤلف الرواية العربية ويؤكد على رفضه لمصطلح رواية المدينة فيرى أن هذا المصطلح ناتج عن احتفال غير مبرر نقدياً بالمضمون ويقول: «هو عندي ليس مبرراً فحسب بل هو ضار جداً لأنه يشجع على إنتاج نوع من الكتابة يحمل عناوين «روائية»، في حين أنه أقرب إلى التقارير الاجتماعية منه إلى الإبداع الروائي، والخلل الحاصل لأن النقد لم يعد يحفل بتقاليد القالب وحدود النوع وشاعرية الروح المبدعة ومغامرات اللغة الخلاقة وأدوات التشكيل التي هي أسلحة كل مبدع، ومبلغ الاهتمام بهذا كله أن يجود عليك بعض النقاد ممن لهم أثر على القراء في الحياة العامة من ذلك الكلام، فيقول إن اللغة مهمة أو إنها وسيلة من الوسائل على أننا نتبع الهاجس الأول ونريح أنفسنا ونقول مثلاً إن «القاهرة الجديدة» و«خان الخليلي» و«بداية ونهاية» و«بين القصرين» و«قصر الشوق» من روايات المدن متعمدين هذا فنسمي بعض روايات الكوني «روايات الصحراء». وفي هذه الحالة نكون قد دخلنا محظورين لا محظور واحد، هما فعل ما لا يمكن فعله أعني المضمون على الشكل ثم إعلاء شأن أحدهما على الآخر وذلك حين خصصنا المضمون من دون الشكل بشرف التسمية، سيضعنا هذا الأمر في مأزق، فهل نسمي «زينب» لهيكل رواية «ريف»، وإذا فعلنا ذلك فهل تدخل هي و»الأرض» للشرقاوي تحت التسمية ذاتها؟ وماذا عن بعض أعمال يوسف إدريس؟ ثم ماذا عن رواية «العجوز والبحر» لهمنغواي؟ وهل نسميها «رواية الماء» مثلاً؟ وفي يقيني أن السبب في كل هذه المخاطر الحاصلة والمحتملة والمتوقعة غياب منهج معتمد على تحليل الرواية يكتب بمصداقية من النص الذي نسلم جميعاً بأنه مرتكزنا الأصلي ومع ذلك لا نبذل الجهد الواجب في خدمته».

ويطرح الكتاب أزمة تواصل الأجيال الادبية, مؤكدا على ضرورة الإيمان بتعدد وجهات النظر وبتقليب الأمور على وجوهها واعتبار البدائل كلها ممكنة، وأن الحقيقة تموت باعتناق الرأي الواحد واعتباره المظهر الأوحد للحقيقة ففي هذا موت الحقيقة.

تواصل

ويؤكد المؤلف على أن التواصل بين الأجيال هو السبيل الوحيد لاستمرار نعمة المعرفة، لأن استمرار المعرفة يعني استمرار الحضارة وعلى ذلك تعتبر عبارة الاتصال بين الأجيال عبارة صحيحة وينبغي أن تظل جزءاً من اللغة الحية الماثلة في الأذهان وألا تتحول في أي مرحلة من التطور إلى عبارة منبوذة أو إلى «أكليثية» مفرغة من المعنى. وعلى ذلك يجب أن نستخدم هذه العبارة في سياقات مختلفة ونشقق الدلالات المتصلة بها على نحو يجعل منها دائماً محوراً مركزياً يدور حوله عشاق المعرفة في التراث ملتحمين بعشاق المعرفة في إنجازات الحاضر، وكذلك بعشاق البحث في علوم المستقبل. وعبارة القطيعة المعرفية عبارة خداعة حين تستخدم في مجال الإنسانيات، ولا يمكن أن تحمل مصداقية في الوجدان البشري أو حركة المجتمع أو العاطفة الإنسانية وإن حملت بعض المعنى في مجال العلم التجريبي.

ومن ناحية أخرى إذا الغينا الآخر، بحسب الكاتب، حق علينا انصافاً أن نقبل أن يلغينا الآخر، وإذا حدث ذلك فأي تخريب يمكن أن يحل بالبشرية؟ وهنا يكون الصواب، بدلا عن ذلك، في أن نبحث عن صيغة ملائمة نرتضيها قاعدة صلبة نرسي عليها فكرة «التواصل» لا التدابر والتقاطع بين الأجيال. ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يواجه باستمرار المعرفة الإنسانية الحقة خصوصاً في ضوء هجمات التمزق الشرسة التي نعاني منها. من دون الوقوع على مثل تلك الصيغة يصبح الحوار المثمر بين الأجيال عسيراً حقاً.