قد يفاجئك أحد الأصدقاء بعبارة «رواية -س- من الكتاب لا تساوي شيئاً»، هكذا... بكلمة عابرة أو جرّة قلم، هنا يكون صديقنا هذا قد اصطاد عصفورين بحجر واحد -إن صح التشبيه- فهو من ناحية يُضفي شرعية على ثقافته، وذوقه الذي قد لا يكون بالضرورة سليماً، ومن ناحية أخرى يصادر حقك في القراءة والتقييم، ولا أبالغ إن قلت إنه يصادر فكرك في تحليل النصوص، وأدواتك الخاصة.

Ad

لم أقتنع يوماً بهذه الطريقة المعمّمة في إطلاق الأحكام على النصوص الأدبية، إن النص الأدبي معقّد للغاية، كما أن القراءة النقدية معقدة هي الأخرى، كل نص يخضع لحالة مزاجية ونفسية مرتبطة باللحظة الآنية للقراءة، قد أكوّن انطباعاً أولياً عن قصيدة شعرية، أو مجموعة قصصية في لحظة ما، لكنني سرعان ما أعيد النظر في أحكامي التي أطلقتها في اللحظة الأولى، وهكذا في كل قراءة ثانية وثالثة ورابعة، هذا بالنسبة إلى القارئ الواحد، فما بالنا بمجموعة قراء مختلفي الثقافات والأمزجة يقرؤون النص الواحد، ويعيدون قراءته مرات، ومرات، هنا تتكون انطباعات وأحكام لا حصر لها، تختلف باختلاف ثقافة القارئ، والظروف النفسية المواتية لحظة القراءة.

يجهل كثير ممن يجتهدون في تحليل النصوص وتقديم آراء بشأنها، أن النقد الأدبي تجاوز مرحلة التقييم، فالناقد لم يعُد ذلك الأب الروحي الذي يمنح شهادة ميلاد لكاتب ما ويحجبها عن آخر، بعبارات عمومية مثل: رواية رائعة، نص جميل، كتاب متميز، أو أن يقول: «روايات -س- من الكتاب لا تساوي شيئاً».

لم يعد المبدع بحاجة إلى مثل هؤلاء النقاد، لاسيما بعد ثورة النشر، وانفتاح الفضاء الإلكتروني على مصراعيه، المبدع يكتب نتاجه ويطرحه في الأسواق، والحكم للقراء المختلفين بكل أطيافهم وثقافاتهم، وليس «للآباء» الذين يبحثون عن الوصاية وإطلاق الأحكام الشمولية.

لقد أضحى النص النقدي نصاً إبداعياً آخر يتماهى مع النص المدروس ويتقاطع معه، يضيف إليه، ويكشف عن بعض جوانبه. القراءة محاولة إحياء للنص الجامد، النص لا يكتسب شرعيته ووجوده إلا من قرّائه المتعددين، ولا ننسى المستويات المتعددة للقراءة الواحدة ذاتها، فللناقد أن يناقش المستوى اللغوي معتمداً على البنية النحوية والتركيب الأسلوبي، وهو ما يقودنا إلى الدراسة الأسلوبية للنص، وللناقد كذلك أن يناقش المستوى المعجمي، أو الدلالي، كما يمكن قراءة النص قراءة سيميائية نعتمد فيها على إشارية اللغة وتعدد دلالات المفردة الواحدة، التي توصف بأنها منطلقة في الفضاء الرحيب، تتلون وتتغير بحسب تغير السياق الذي تسير فيه.

تتنوع المدارس النقدية المعاصرة، وإن اتفقت في المجمل على تجاوزها مرحلة إطلاق «الأحكام القضائية» على النصوص، فالنقد التحليلي مثلاً يوصف بأنه «يبدأ من النص ولا ينتهي إليه»، أي أن بداية القراءة الحقيقية تبدأ من النص، لكنها تنتهي إلى أفق مفتوح لا نهاية له.

من يقرأ النص وهو يحمل في داخله «محاكم التفتيش» والحس التسلطي الفوقي، لا يمكن أن يصل إلى مواطن الجمال، أو حتى لذّة «القراءة المحايدة» التي غالباً ما تنتابنا، ونحن نعيش لحظات القراءة الأولى.

قد يعود فهمنا الخاطئ للنقد باعتباره «محاولة إظهار العيوب»، إلى السياق الاجتماعي الذي توظّف فيه مفردة النقد، فنحن نقول: ناقد رياضي، ناقد فني، ناقد أدبي، المحصلة النهائية أن المجتمع بات يتعامل مع كل هذه الفئات باعتبارهم «مفتشين» وليسوا نقاداً يتماهون مع النص موضع الدراسة، ويقدمون قراءة جمالية أو تحليلية، هي واحدة من عشرات القراءات، التي تتقاطع مع النص، وتضيف إليه.