يتردد كثيراً في الأوساط الثقافية مقولات مثل: «النخبة الثقافية»، «الشاعر ضمير الأمة»، «المبدعون يتمتعون بالرقة والإحساس الشفاف»، وكأن غير المبدعين لا إحساس لهم! لم أتيقن بعد من أين تسربت إلى الكتابات الثقافية مقولات مثل هذه، والغريب أنها تتداول من أساتذة جامعيين، وكتاب ذوي سمعة عالية دون تمعن أو تمحص. هل المبدعون بمختلف أصنافهم هم ضمير الأمة، ومكتشفو الحقيقة المطلقة؟ المقولة تنطوي على قدر كبير من الاستعلاء، وتهميش الجماهير. الغريب أن المبدعين والمفكرين أنفسهم هم من يطلق هذه المقولات، من قبيل الترويج للذات، وصناعة هالة إعلامية أقرب إلى القدسية، وهي مختصة بالأنبياء بالدرجة الأولى. أحد الأصدقاء كان يُطلق على مبدعي «ملتقى الثلاثاء» الذين يرتادون مقهى الوحدة في الكويت لقب «الأنبياء الصغار»، ما المانع في أن يكونوا كباراً؟

Ad

حين أصدر علي حرب كتابه «أوهام النخبة» 1996، ثارت ضجة كبيرة بشأنه، والحقيقة أن حرب يتناول في هذا الكتاب شخصيات ثقافية عربية وأجنبية، يحلل مقولاتهم، وبعض مواقفهم في الحياة مقارنة بتأثيرهم الفعلي في أرض الواقع، وينتهي إلى فكرة أن النخبة الثقافية والفكرية انتهت إلى غير رجعة، هو يستند في كتابه إلى الجانب الفكري بالدرجة الأولى، باعتبار أنه يناقش مقولات لمفكرين وفلاسفة، وإن كان يتعرض لذكر بعض الجوانب الثقافية الإبداعية الأخرى. يطرح حرب سؤالاً مهماً هو «هل هناك تطابق بين مهمة المثقف، ومهمة الداعي الايديولوجي، أو المنظر العقائدي أو المرشد الروحي والقائد الثوري، أو الزعيم الحزبي»؟. في حال كانت الإجابة بالإثبات فإن المثقف يضع نفسه في دور الوصي على الجماهير، الأمر الذي يتناقض مع مبادئه وما يدعو إليه من إتاحة الفرصة للجماهير كي تعبر عن آرائها وتأخذ دورها الفعلي في الحياة. الغريب أنه كلما ازداد دور النخبة الثقافية، زاد تهميش الجماهير، والقضاء على صوتهم.

من أين تسربت إلينا مقولة «الشاعر ضمير الأمة»؟. قد يكون لها علاقة بالنسق الثقافي المضمر، الذي يفعل فعله في الوجدان بسبب محفوظاتنا التراثية القديمة، فعلى مختلف العصور التي مرت «الجاهلي، الأموي، العباسي» كان الشاعر لسان القبيلة والمدافع عن حقوقها. عوضاً عن معلومة أن لبعض الشعراء في تلك العصور شيطان شعر، يأتيه «بما لم تستطعه الأوائل». هنا أصبح الأمر مرتبطاً بالغيبيات، وما وراء الطبيعة، وهو يعود بنا مرة أخرى إلى فكرة «النبوة» التي يميز بها المبدعون أنفسهم. يغيب عمن يردد هذه المقولات أن فكرتي شيطان الشعر، ولسان القبيلة مرتبطتان بمرحلة الشفاهية من تاريخ الأمة. وكما يقول د. عبدالله الغذامي فإن الصيغ التعبيرية مرت بأربع مراحل مختلفة في التصور البشري، هي مرحلة الشفاهية، ثم مرحلة التدوين، وتتلوها مرحلة الكتابية، وأخيراً مرحلة «ثقافة الصورة»، وهي المرحلة التي يعول عليها الغذامي كثيراً، لإثبات فكرته عن سقوط النخبة، وبروز الشعبي في كتابه «الثقافة التلفزيونية»، فقد فتحت الصورة أفق التلقي إلى أوسع مدى، وأصبحت الجماهير العريضة مهيأة لتلقي المعرفة عن طريق الصورة سواء كانت في هيئة عمل درامي، أو وثائقي تلفزيوني، أو إعلاناً تجارياً. لم تعد عملية التعلم مقتصرة على معرفة القراءة أو اقتناء الكتاب بل هي أوسع من ذلك بكثير.

في أواخر التسعينيات من القرن المنصرم قام جاك دريدا (2004-1930) بزيارة شهيرة إلى مدينة القاهرة. كنت قرأت حينها موقفاً طريفاً حصل معه حين التف حوله أساتذة الجامعات، كل يحمل كوم مؤلفاته، للإهداء أو الاستعراض، تحدث إليهم في لقاء مفتوح، ولكنه نبههم بلطف شديد إلى أن كل ما يقولونه موجود في بطون الكتب، وطلب لقاء طلبة الجامعات في حوار مفتوح ليستشف ما في دواخلهم من آراء حول الفكر والفلسفة. دريدا ينبه هنا إلى أن دور طلبة الجامعات قد يكون أعمق أثراً من أساتذتهم الذين لا يستطيعون الاستغناء ولو للحظة عن كتبهم، التي لم يعد يقرأها أحد.