كان عيزرا ناجي زلخا من أشرس الجواسيس الإسرائيليين وأمهرهم في بغداد، وهو ممّن كانوا مكلفين بتجنيد طيار عسكري عراقي للهروب إلى إسرائيل بطائرة ميغ ـ 21، التي تزودت بها مصر وسورية والعراق من الاتحاد السوفياتي وسببت رعباً لإسرائيل لما لها من مزايا قتالية خطيرة، وقام غيره من عملاء إسرائيل بتلك المهمة كما عرضنا سابقا في الحلقتين الثانية والثالثة من هذه السلسلة.

Ad

ولد عيزرا في الموصل شمال العراق عام 1927، وحصل على شهادة متوسطة أهّلته للعمل موظفاً في أرشيف وزارة التجارة في بغداد، وذات مرة وهو في المعبد اليهودي تعرف الى معلمة يهودية اسمها ملاذ، فأحبها بإخلاص وتزوجا عام 1952 وعاشا حياتهما في هدوء، إلى أن أصيبت فجأة بالحمى التيفودية التي سرعان ما فتكت بها، ورحلت بعد عام من الزواج، فعاش حياته من بعدها وحيداً، مهموماً يجتر ذكرياته معها.

في أحد الأعياد اليهودية، حمل عيزرا باقة زهور إلى قبرها، فهاجمته ذكرياته الجميلة معها وانخرط في نوبة بكاء، ولم يفق منها إلا على يد حانية تربت على كتفه، كان صاحبها رجلاً قارب الستين، فقص عليه حكايته، تأثر الرجل وطالبه بالصبر، وأخذ يقص هو الآخر حكايات ومأثورات ليخفف عنه، فحدثه عن نفسه وعن زوجته فائقة الجمال، التي ماتت هي الأخرى في شبابها وهي تلد، فلم يعثر على من تماثلها جمالاً، وعاش بلا زوجة واهباً حياته لابنته الوحيدة التي أنجبها.

كان اليهودي الكهل – واسمه بوشا – يعمل تاجراً متجولاً بين أحياء بغداد الشعبية، يبيع بضائعه المختلفة بالأجل، فاشتهر بين النساء الفقيرات اللاتي أقبلن على سلعه، وكانت زيارة عيزرا لبوشا للمرة الاولى بداية مثيرة لقصة من قصص الحب والجاسوسية.

وقع هذا التاجر المتوسط الحال، منذ زمن، في شرك الجاسوسية، وانضم لإحدى الخلايا السرية التي تعمل لصالح إسرائيل، وكانت مهمته جمع المعلومات عن فقراء اليهود في الأحياء الشعبية، ظروفهم المعيشية، أعدادهم، تعليمهم، حرفهم، واتجاهات الرأي عندهم في مسألة الهجرة، فكان لذلك يكثف من زياراته للأحياء اليهودية ليكتب تقاريره عنهم، ويتردد على القبور ليتصيد الأخبار من أفواه المكلومين، من دون أن تعلم ابنته بنشاطه التجسسي، أو يحاول هو جرها إلى العمل معه.

ذهب عيزرا مطمئناً إلى صديقه الجديد بوشا الذي استقبله بترحاب كبير، وصارحه بأنه مغتبط لوفائه العظيم لزوجته الراحلة مثله، وفي تلك الزيارة تعرف الى ابنته روان، كانت فتاة رائعة الجمال، شغلت عقله واقتحمت قلبه منذ اللحظة الأولى، وشعر بأن الحياة عادت إليه وهو الذي كان يحيا أقرب إلى الأموات منذ وفاة زوجته.

في إحدى زياراته لصديقه العجوز بوشا، طلب عيزرا يد روان منه، فضحك العجوز ساخراً، وسأله كم ديناراً يملك مهراً لها؟ فأجابه عيزرا بأنه يدخر ألف دينار، ولديه سكن وعمل حكومي، وراتبه يفي بمتطلبات الحياة الزوجية، لكن اليهودي العجوز ضحك بصوت عال وقال له إن مهر ابنته الوحيدة عشرة آلاف دينار لا تنقص ديناراً واحداً، فعاد عيزرا لمنزله مهموما مكسورا.

مرت به ليال طويلة مريرة وهو يفكر ما العمل؟ صدق حدس بوشا عندما زاره عيزرا عارضًا ألفي دينار مهراً لروان، فسأله العجوز بخبث عن مصدر الألف الثانية فقال إنه تقدم بطلب «سلفة» تُحسم من راتبه، ولما رفض بوشا طلبه للمرة الثانية، عرض عيزرا أن يستكتبه صكاً بألف دينار أخرى، لكن بوشا وافق أن تكون قيمة الصك ثمانية آلاف دينار، لكن بشرط، سأله عيزرا عن شرطه الأخير، فأحكم اليهودي الخبير خنقة الشد، عندما عرض عليه مساعدته في إقناع من يعرفهم من اليهود بالهجرة إلى إسرائيل، فإن تحديد موعد زواجهما مرهون بمدى ما يبذله من جهد في هذا المجال!!، وافق عيزرا على الفور طالما أزيلت عنه عثرة المهر، أما مسألة هجرة اليهود فأمر واجب ولا يعد تضحية في نظره، فالدولة اليهودية كانت عبر إذاعتها العربية، تبث دعايتها ليل نهار بأحقية يهود العالم في أرض الميعاد، ثم ماذا سيخسر ليكسب روان؟ مجرد إقناع بعض اليهود بالهجرة ليس بالأمر الصعب، فالفقراء الذين سيتكلم معهم، يحسون بالضيق لسوء أحوالهم المعيشية، وقد يرون في الهجرة مخرجاً لهم.

التهجير الى إسرائيل

في تلك الفترة التي تأهب فيها عيزرا للعمل، حدث انقلاب كبير على الساحة العربية، إذ وقع العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، واحتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء، وبتدخل الولايات المتحدة انسحبت الجيوش المعتدية، لكن احتلال اليهود سيناء كان أمراً مدهشاً لليهود العرب، فقد ارتابوا كثيراً من قبل في قدرة الجيش الإسرائيلي على مواجهة الجيوش العربية، وتراجعوا عن فكرة الهجرة، ثقة في القوة الرادعة العربية، لكن بعد احتلال سيناء ثم الانسحاب، اهتزت الصورة.

ما هي إلا أشهر قليلة حتى كان رصيد عيزرا اثنتي عشرة أسرة يهودية، تمكن من إقناعها بالهرب إلى إيران، ومنها إلى إسرائيل، ورحلة الهرب كثيراً ما كانت تبدأ من الشمال الشرقي، حيث يقوم فيها بعض العملاء من الأكراد بدور رئيس وفاعل، إذ يقودون الهاربين عبر الجبال والسهول والممرات الوعرة إلى الحدود الإيرانية، حيث يتعهدهم حرس الحدود الإيرانيون وضباط الموساد.

أخيرا تزوج عيزرا بمحبوبته الجميلة وعاش معها أجمل أيامه، ولم تكد تمر فترة وجيزة حتى مات بوشا والد زوجته، وأثناء تشييعه، اقترب منه رجل لا يعرفه، همس له ببضع كلمات ثم اختفى. عاد إلى منزله تشوبه ملامح القلق، سألته روان عما في داخله فصارحها بأمر أبيها ومعاونته له في تهريب اليهود، ففوجىء بها تلف عنقه بيديها وتقول: إذن أنت بطل، لقد اختصرت الطريق عليه، وطالما هو بطل في نظرها فكل شيء يهون.

في أحد المقاهي، جاءه الرجل الغامض، منحه خمسمائة دينار وطلب منه أن يلتقيا بعد أسبوع في المكان والساعة ذاتها، إنه أحد عملاء الموساد في العراق، مهمته تدريب الجواسيس الجدد وحصد المعلومات منهم وتجميعها والربط بين الشبكات. توالت لقاءاتهما بأماكن مختلفة في بغداد، وخضع عيزرا لدورات في فنون التجسس، حتى أتقنها وأصبح عميلا معتمدا لدى الموساد.

تركز عمل عيزرا بدايةً على مساعدة يهود العراق في تهريبهم الى أرض فلسطين، وفي خلال عامين تمكن من تهريب أكثر من أربعمائة منهم، وسلك أساليب شيطانية لإنجاح مهمته، فأصبح بذلك أمهر جواسيس الموساد في بغداد.

وبينما يتقدم عيزرا في عمله بنجاح، كانت روان مشغولة بأمر فشلها في الإنجاب، يملؤها الحنين إلى طفل يضيء حياتها، وعلى رغم صمت زوجها وعدم اهتمامه بالأمر، إلا أنها سعت لدى الأطباء واهتمت بالوصفات الشعبية من دون فائدة، فتأثرت حالتها النفسية وشعرت بالاختناق من وجودها في العراق، وحدّثتها نفسها أن تفاتح زوجها برغبتها في الهرب معاً لإسرائيل، فقد تجد هناك طرقا طبية أكثر تقدما تساعدها في الإنجاب، ولما صارحته بذلك رفض في البداية، ثم طلب منها الانتظار حتى يأذنوا له بذلك.

وكر الجواسيس

لم يكن سهلا على الموساد أن يسحب عيزرا بعدما أتقن عمله وأجاده بحرفية عظيمة، فعملية سحب العملاء تخضع لحسابات معقدة، وجاءه الرد بالانتظار، وعلى رغم حزنه لأجل روان، تملّكه الزهو عندما علم بأنه مُنح رتبة عسكرية في الجيش الإسرائيلي، تضمن له ولأسرته معاشاً محترماً عندما ينتهي من مهمته وينتقل للعيش في إسرائيل، ثم خضع لدورة تدريبية جديدة لتعلم كيفية استعمال اللاسلكي في بث رسائله، ثم وصله جهاز لاسلكي متطور لا يمكن رصده بأجهزة تتبع الذبذبات التي لم تكن موجودة أصلاً في العراق حينذاك.

أثبت عيزرا مهارة في استخدام اللاسلكي ونجح في تنمية علاقاته ببعض المسؤولين، لدرجة أثارت ذهول مرؤوسيه في الموساد، خصوصا بعدما بدأ في إرسال تقارير غاية في الأهمية عن الاقتصاد العراقي، وأصبحت المعلومات التي يبثها إلى تل أبيب تقيم في الفئة (أ) التي تستحق مكافآت مالية ضخمة أتخمت بها جيوبه وبدلت نظام حياته وإنفاقه.

عرض عيزرا على زوجته مشاركته في أعماله التجسسية لحساب إسرائيل، طمعاً في المزيد من أموال الموساد، وكان المطلوب منها أن تبدي بشاشة لموظف في وزارة الخارجية فوافقته!!، وبسهولة شديدة أوقعت الموظف المسيحي في حبائلها، فأوهمته بأنها تحبه، وبأنها أصبحت لا تفكر بالهرب إلى إسرائيل كي تظل إلى جانبه. بدايةً، انزعج «كامل» عند سماع اسم «إسرائيل»، ولكي تُذهب عقله وتشل تفكيره، أسلمت له نفسها فذهله جمالها الرائع وأنوثتها الطاغية، وأكد لها بكل صدق بأنه معها في أي مكان حتى لو كان إسرائيل، ثم بدأت تطلب منه ما تريده، فتدفقت الوثائق والتقارير من أرشيف الوزارة السري، وكلما سلمها عشرات الوثائق الخطيرة ادعت بسخرية تفاهتها، فأدرك كامل بأنه وقع لأذنيه في بئر الخيانة وأضحى في مرحلة لا يستطيع فيها الخلاص.

بدأ عيزرا يتعامل مع زوجته على أنها مجرد شريكة له في عمله، وقد يكون تناسى تماما أنها زوجته، فكلفها باصطياد ملازم أول في مطار بغداد، مغرور ببزته الرسمية وبالسيارة الحكومية التي تذهب به وتجيئه يوميا، ولأنه يسكن في المنزل المواجه، كان الأمر سهلا جداً، فأشهرت أسلحتها الأنثوية الفتاكة أمامه، فاستسلم وخضع من دون مقاومة، وسقط الضابط الصغير، وتدفقت من خلاله المعلومات الأكثر سرية عن المطار، وطائرات الشحن المحملة بالمعدات العسكرية التي تفرغها داخل حظائر خاصة تخضع لإجراءات أمنية صعبة، وأعداد الخبراء السوفيات والتشيك الذين يتوافدون ويغادرون، والرحلات السرية لطائرة الرئاسة، وبسبب ذلك أصبحت روان هي الأخرى ملازمًا أول في جيش الدفاع الإسرائيلي.

لأسباب أمنية بحتة، اشترى عيزرا منزلاً جديداً من طابق واحد في حي الكاظمية في بغداد، كانت له حديقة خلفية ذات أشجار كثيفة وباب يؤدي إلى منطقة مهجورة مليئة بالأحراش، وبواسطة تلسكوب متطور كان يمسح المنطقة المحيطة المؤدية إلى منزله قبل خروجه، وقبل أو بعد زيارة أحد زملائه من العملاء، فتحول هذا المنزل إلى غرفة عمليات يُجرى فيها تجنيد العملاء الجدد وتدريبهم.

خلال ثلاث سنوات من انخراط روان في الجاسوسية، استطاعت وحدها تجنيد ثلاثة عشر موظفاً عاماً في مواقع مهمة، منهم أربعة ضباط برتب مختلفة في الجيش العراقي وضابط في أمن المطار، وتدفقت بواسطتهم أسرار العراق أولاً بأول إلى إسرائيل.

القتلة!

نصبت روان شباكها حول طبيب في الجيش يحمل رتبة نقيب، ومثل سابقيه، فقد الطبيب مقاومته وغرق في بحر أنوثتها، ولما جاءت لحظة المصارحة والمساومة، لم يصدق النقيب الطبيب حسين علي عبد الله أنه بين أحضان جاسوسة محترفة، وفي وكر للجواسيس، فانتفض من بين أحضانها وقام فزعاً يرتدي ملابسه ويتوعدها بمصير مظلم.

هددته بتسجيلاته معها فرد عليها بأنه رجل ولا عار عليه فهي تؤكد رجولته. هددته ثانية بما تفوه به في السياسة والعسكرية وأن مستقبله بيدها، فبصق عليها قائلاً إنهم سيكافئوه بالترقية لأنه سلمهم جاسوسة إسرائيلية، وهجم عليها محاولاً تكبيلها واقتيادها للسلطات، لكنه فوجئ بعيزرا أمامه يشهر مسدسه.

كان خطأ كبيرا منه كرجل عسكري، فقد كان يجب عليه مسايرتها حتى يخرج من هذا الوكر، لكنه كان يظن أنهما بمفردهما، فانطلقت الرصاصات إلى رأسه وتناثرت شظايا عظام جمجمته على جدران الغرفة، وقضى عيزرا وزوجته الليل يحفران قبره في الحديقة الخلفية، ثم أهالا التراب فوق الجثة. انكمشت روان يفتك بها الهلع، فهي تنام بين أحضان قاتل، وعلى بعد خطوات من فراشها، يرقد قتيل.

تأثرت روان بمقتل الضابط، لكن زوجها مضى في طريقه قدماً تحفه الثقة ويملأه الغرور، مرت تسع سنوات وهو يباشر مهامه التجسسية، وأعوانه منتشرون في كل مؤسسات العراق الحيوية، يمدونه بما يذهل الإسرائيليين من معلومات عن أحشاء العراق وشرايين الحياة المختلفة فيه.

الميغ 21

جاءته رسالة بواسطة الراديو، كانت تكليفا بتجنيد طيار عسكري عراقي بأي شكل، يقبل الفرار بطائرته الحربية ميج ـ21 إلى إسرائيل، بدأ عيزرا رحلة البحث عن طيار خائن، ومن خلال الخونة العسكريين أعضاء شبكته، تعرف – بشكل يبدو عفوياً – بالنقيب طيار شاكر محمود يوسف، وسبق له أن التحق بدورات تدريبية في موسكو ولندن لزيادة كفاءته كطيار للميج 21 القتالية الاعتراضية التي ترعب إسرائيل.

التقى به عيزرا وزوجته في إحدى الحفلات، وحاولت روان بأسلحتها الأنثوية الطاغية أن تلفت انتباهه لكنه تجاهلها، فاغتاظت وأصابها نوع من الإحباط، ثم أعلمت عيزرا بقرار اعتزالها مهمة اصطياد عراقيين جدد، لكنه فاجأها ذات مساء حينما جاء وبرفقته شاكر، وأسر لها بأن الطيار الشاب تجاهلها في الحفل لوجود زوجته معه، وأن «الوسيط» استدرج شاكر ورأى منه الرغبة في التعرف إليها، فتظاهر بمصاحبته وبدأت الاتصالات بينهما.

فجأة وقبل أن تنسج روان شباكها على الطيار الشاب، سافر إلى أميركا للحصول على دورة في «قيادة التشكيل» في تكساس، وهناك تولت المخابرات المركزية أمره، فدفعت بأنثى أخرى في طريقه، جيء بها خصيصاً على وجه السرعة من النمسا حيث تعمل كممرضة بالمستشفى الأميركي في فيينا، وتدعى «كروثر هلكر»، فاتنة الحسن طاغية الجمال، عملت كمشرفة في نادي الطيارين الشرقيين في قاعدة التدريب الجوية في تكساس، نصبت شباكها حول شاكر يوسف فوقع في حبائلها، كان يريدها عشيقة موقتة في أميركا، بينما كانت تريده زوجاً لتكتمل الخطة، لكنه رفض رغبتها لأنه متزوج ويحب زوجته، لكنها ظلت تحاول مرات ومرات إلى أن فشلت، ويبدو أن الموساد والـسي آي إيه لا يعرفون أن العسكريين العرب محظور عليهم الزواج بأجنبيات.

لما عاد إلى بغداد من دون أن يحقق حلمهم، طارت كروثر خلفه ونزلت في فندق بغداد الدولي واتصلت به، فاستأجر لها شقة مفروشة هناك تطل على نهر دجلة، وأخذ يتردد عليها خفية، محاولاً إقناعها بالعودة لأنه متزوج ويعيل طفلاً فلم تنصت إليه، ثم حدثته عن «منظمة السلام العالمي» المهتمة بنشر السلام حول العالم، صرخ فيها وهددها بأن تسافر فوراً خارج العراق، وإلا فهو مضطر لإبلاغ السلطات بسعيها لتجنيده لصالح جهات أجنبية.

عند ذلك رأت أنه لا بد من تصفيته في أسرع وقت خشية افتضاح الأمر، وتنكشف بذلك نوايا الأميركيين والإسرائيليين، فيُمنع الطيارون الذين أوفدوا في بعثات الى الخارج من قيادة الميج ـ 21. صدرت الأوامر لعيزرا بالتخلص من يوسف، ونسِّق بين كروثر وعيزرا لتنفيذ المهمة. وأثناء زيارة يوسف الأخيرة لها في شقتها، عمد كما في المرات السابقة إلى ترك سيارته على بعد شارعين تحسباً لأي طارئ. احتدم النقاش بينهما فهددته بأفلام وصور جنسية أُخذت لهما في أميركا فلم يهتم، وفي المحاولة الأخيرة لإبقائه حياً، عرضت عليه مليون دولار ثمناً لطائرة الميج ـ 21، يفر بها الى إسرائيل، فلطمها على وجهها لطمة قوية فنزف الدم من فمها، وقبل أن يخرج من الحجرة ثائراً لإبلاغ السلطات، فاجأه عيزرا بطلقات مسدسه الكاتم للصوت، فسقط في الحال قبل التمكن من استعمال مسدسه.

النهاية

في 6 يوليو (تموز) 1965 وبعد وقوع الجريمة بأسبوع، اكتُشفت جثة الطيار القتيل، كان عيزرا في ذلك الوقت يمضي أسوأ أيام حياته على الإطلاق، إذ نشرت الصحف العراقية نبأ مقتل كروثر هلكر في أحد فنادق لندن في ظروف غامضة بعد يومين من مغادرتها بغداد، وصرح مسؤول أمني أن الجثة وُجدت ممزقة، وفيها ثلاثون طعنة بعدد سنين عمرها، وهكذا تخلصت الـ C.I.A من كروثر لإخفاء معالم الجريمة إلى الأبد، فماذا عنه هو؟ دارت الدنيا به على وسعها، وصوَّر له خياله أن الموساد سوف يقتله أيضاً كي لا يتسبب في اكتشاف شبكاتهم في العراق، وعليه قام بتعطيل جهاز اللاسلكي واختبأ في إحدى الشقق لا يخرج هو أو روان إلا للضرورة.

بعد احتفالات رأس السنة عام 1966، بدأ يتكشف أمر شبكته ضمن الشبكات التسع التي سقطت في أيدي المخابرات العراقية حينذاك. بحثت الأخيرة عن عيزرا وتعقبت آثاره في كل العراق، فسقطت روان أولا، ولما سألوها عن عيزرا قالت بهدوء: «لن يتأخر»، واعترفت من تلقاء نفسها بأنها جاسوسة إسرائيلية، استطاعت أن تجند جيشاً من اليهود العراقيين وسائر الملل بالغواية، وأرشدتهم الى مقبرة الضابط الطبيب في الحديقة الخلفية، وقادتهم إلى مخبأ سري في داخله جهاز اللاسلكي المعطل وكتاب الشفرة وكاميرات سرية عدة، وأفلام ووثائق لم تُبعث بعد للموساد.

كانت سيارات الأمن اختفت من المكان الذي بدا طبيعياً واختبأ ضباط عدة داخل المنزل ينتظرون الثعبان الكبير، وما أن جاء وخطا خطوات قليلة إلى الداخل حتى قُبض عليه، واقتيد إلى مكان سري للاستجواب، فاعترف اعترافات تفصيلية بنشاطه لمدة عشر سنوات لصالح الموساد، وسدّت اعترافاته ثغرات عدة كانت تحول دون الوصول الى بقية الشبكات.

أحيل عيزرا للمحاكمة وحُكم بإعدامه وزوجته شنقاً مع تسعة آخرين، وإعدام خمسة عسكريين رميا بالرصاص.