حاول العسكريون اليابانيون إخفاء دورهم في فضائح نساء المتعة أثناء الحرب العالمية الثانية، وغطوا تصرفاتهم حيال النساء عبر وكالات توظيف على أساس أنهن يعملن في «كانتينات الجيش» بينما الحقيقة أنهن كنّ يُجبرن عنوة على تقديم المتعة، بل تمادت العسكرية اليابانية إلى حد تدشين مواخير كثيرة في دول آسيوية بما فيها اليابان. يبدي كثيرون إعجابهم بالحضارة اليابانية، خصوصاً في منجزاتها التقنية التي تخطت بها أكثر البلدان تقدماً، وأثار نهوضها السريع إعجاب الجميع بعد أن دمرت الحرب قوتها العسكرية وأخضعتها للاستسلام، فتركت القنبلة النووية علاماتها حتى يومنا الحاضر. وكلما تذكر اليابانيون تلك الصفحات المروعة، شعروا بالاشمئزاز والتقزز والكراهية لكل ما يذكّرهم بالحرب، وتحديداً بين الجيل الذي عاش تلك التجربة المريرة. ومع النهوض والإعجاب لم يتساءل كثيرون عن وحشية الإمبراطورية اليابانية الاستعمارية إبان الحرب، وكيف تركت لدى شعوب آسيا التي احتلتها صوراً بشعة في الذاكرة، ولاتزال منظمات حقوق الإنسان تنبش في ذلك الأرشيف، الذي تم تدميره من قبل القيادة العسكرية اليابانية كونه يعكس إدانة لكل جرائم الحرب، ويضعها في قفص الاتهام أمام الرأي العام العالمي، ومع ذلك تسربت بعض الملفات التي تدين سلوكيات الجيش المحتل والاستعماري، كما أن الدراسات والبحوث شكلت جانباً مهماً يُعتمد عليه في تلك الإدانة، مع العديد من شهادات واعترافات الضحايا. فماذا خلّفت العسكرية اليابانية العنيفة وهي تمارس أنماط الاغتصاب والخطف وإجبار النساء قسراً على ممارسة الدعارة في كل محطاتها التي شكلتها، وهي تحتل بلدانا عدة، بل وأصبحت النساء اللائي وظيفتهن تسلية الجنود جسدياً وإمتاعهم بالسبل الممكنة كلها؟! وأصبح ذلك النهج يطلق عليه «عبودية النساء الصُفر»، حين كن يُرغمْن على القبول سواء قسراً أو بمكر أو بضعف أو بخنوع لتسلية الجنود والضباط اليابانيين. وعرفت تلك الحقبة من الحرب العالمية الثانية في آسيا بشاعة يصعب تخيلها، فقد نقلن ما يسمين comfort woman يومها بعد خطف وتهديد وغواية إلى تلك المحطات العسكرية comfort station بهدف تقديم أقصى ما يمكن من المتعة الإجبارية لمجموعات قادمة من ميادين القتال، وهم يتضورون جوعاً جنسياً. وحاول العسكريون اليابانيون إخفاء دورهم، وغطوا تصرفاتهم حيال النساء عبر وكالات توظيف على أساس أنهن يعملن في «كانتينات الجيش» بينما الحقيقة أنهن كنّ يُجبرن عنوة على تقديم المتعة، بل تمادت العسكرية اليابانية إلى حد تدشين مواخير كثيرة في دول آسيوية بما فيها اليابان، بعد أن رُحلّت النساء من بلدانهن لوظيفة العهر والمتع الجبرية، وكن يغتصبن ويجبرن على ممارسة الدعارة رغم أن نساء كثيرات جلبن في الأصل بحجة العمل.وكانت الصين وكوريا الجنوبية من أكثر البلدان التي «استوردت» الإمبريالية اليابانية منها «نساء المتعة»، وكأننا نستعيد مشاهد تاريخية للمحظيات المسترقات اللائي كن يقدمن أجسادهن للموالي والسادة وتجار النخاسة بعد أن يتم خطفهن واسترقاقهن، فكانت المرأة على مر التاريخ إحدى أهم ضحايا الحروب البشعة، هذا بخلاف ما تعرضن له النساء من تدمير روحي وجسدي وهن يريَن أطفالهن يموتون تحت القصف وتهدم بيوتهن من دون رحمة. ولم تكن الفلبين وإندونيسيا وفيتنام والهند الصينية وماكاو وجزر الهند الغربية وبورما وتايلاند واليابان نفسها، بعيدة عن ثكنات الدعارة المنظمة و«محطات التسلية» التي فضحتها الوثائق المتبقية والمتناثرة والتحقيقات الصحفية ومصادر البحث والشهادات النسوية، التي عرّت سلوكيات الحرب والقيادات العسكرية لبلد بدا لنا اليوم أكثر نصاعة وبريقاً وازدهاراً. وكلما ذكرت أمام نساء آسيا شخصية الياباني، فإنهن لا تريَن فيه إلا ذلك الإنسان البشع ذي القلب البارد منذ زمن الحرب، وذلك الثري الجديد المتوحش في مشاعره وهو يواصل استرقاق النساء بعملته وطغيانه المالي، حيث يخفي الإنسان في تلك البلدان مشاعر الكراهية التي يختزنها منذ أكثر من نصف قرن، غير أن جذوتها ظلت مشتعلة، خصوصاً عند أولئك النسوة اللائي أصبحن عجائز يخامرهن شعور الماضي الحزين والمذل والقسري. ولكون القضية ظلت حية ومتواصلة، فإن ملاحقة الأميركيين ترافقت أيضاً مع ملاحقة اليابانيين باعتبارها متزامنة مع الحضور الأميركي في تلك الفترة. إذ لم يكن الأميركيون أقل بشاعة من الهيمنة اليابانية المنهزمة في الحرب، والتي خلفت وراءها تاريخاً من القسوة والقتل والإبادة. وقد شكل بيان «كونو» اعترافاً رسمياً من السلطات اليابانية حيث اعتذر رئيس الوزراء الياباني كيشي ميازاوا في يناير 1992 أثناء زيارته لكوريا الجنوبية من الآلام والمعاناة جميعها التي عانتها النساء ضحايا العسكرية اليابانية المهيمنة على بلدان آسيا عشية الحرب العالمية الثانية. * كاتب بحريني
مقالات
النساء وبشاعة الحروب!
12-05-2008