نحتاج إلى التأمل والوحدة وإن دفعتنا الحياة إلى الركض والتهالك، حتى إن رددنا تلك المفردة المتكررة «يا أخي ما في وقت علشان الواحد يستريح!!» صحيح أن هناك بشرا متهالكين يلهثون وراء الأشياء التي بدت لغيرهم أنها النهاية القاتلة، فيما ردد عكس المتهالكين باللهاث نحو الوظيفة والعمل والمال وقالوا بأن أولئك البشر لن يصيبهم النجاح كونهم قبلوا بأن يكونوا رهنا للكسل والتراخي.من نصدق بين النقيضين، وإن قال لنا طرف ثالث بالإمكان الجمع بينهما، فكلاهما يشكل تطرفا إنسانيا، فنحن لدينا متسع للوقت بالجمع بين الاسترخاء والعمل الشاق، المهم أن تعرف كيف توزع ساعات وقتك! وبالطبع سنجد من تستهويه برامج في علم النفس، التي صارت رائجة هذه الأيام، وكتابات فائضة عن ذلك الكلام الذي ليس بإمكانه حل مشكلاتنا العاطفية والإنسانية لمجرد أن قام شخص كوسيط مرشد لتلك الحالة الإنسانية، حيث أخذ يكتب لنا على طريقة أولا وثانيا وثالثا وتاسعا. المهم أنه يحاول تسهيل مهمته الكتابية ومحاضراته التي يراها البعض كلاما من الرغو الاجتماعي والإنساني، التي تذكرنا بتلك الكتب التي كانت رائجة في بداية الستينيات «كيف تتعلم الألمانية في خمسة أيام» وبعضهم كان كريما في أسبوع! والبعض قام بترديد ترجمات في الغرب وهو الذي شكلت ثقافته حالة إنسانية وثقافية مختلفة لا تناسبنا، فنرى ترجمات على طريقة «مشكلتك في يدك» هل أنت من النوع الانطوائي؟وتبدأ تلك العناوين بتوريط هؤلاء الناس بمنزلقات أعمق وهوة سيكولوجية وعاطفية، فهل نحن بحاجة للتأمل كلذة ومتعة إنسانية كعاطفة مفقودة؟ تلك الحالة الشبيهة بالمونولوج الإنساني، الذي كان ملازما الإنسان منذ القدم، فكم كانت الحوارات الداخلية، بلا صوت مسموع، متعتنا الصامتة، فهناك القرين الملازم لنا أو «ظلنا الحياتي المتحرك»، وكم ردد الناس دون فهم أن هذا الشخص بدأ يجن لكونه يحدث نفسه، مع أن الأمر عكس ذلك، فالمسألة قديمة ومعتادة بين جميع البشر، وكل ما في الأمر أننا سمعنا صوتا تعدى حدوده الداخلية، مثل «الايكو» الصدى الذي لا يمكننا التحكم بمداه عندما يبدأ الصوت في الخروج من الأعماق الداخلية.وليس غريبا أن كل الفلاسفة القدماء كانوا يحدثون أنفسهم مثلما كانت ربات البيوت أيضا وهن في مطابخهن، غير أن الجديد في الأمر، أنه بدأ يخرج إلى فضاء جديد اعتقد الإنسان أنه اكتشاف وإنجاز ضخم، حينما نقله الكتّاب إلى عتبة المسرح، ولكننا نسينا أن الحياة كانت هي «المسرح الأكبر» لنا جميعا، وكنا تارة متفرجين وتارة ممثلين ومبدعين نكتب سلسلة حياتنا بصمت حتى نهاية العمر، حيث في الشيخوخة تلازمنا الوحدة، والوحدة هي المسرح والفضاء المناسب للمونولوج الداخلي، الذي نود أن نصرخ من خلاله كلما اتسعت هوة الوحدة، وبذلك التبادل الجدلي الدائم بيننا وبين الحياة كمسرح ضيق حينا وفي الحين الآخر مسرح عميق بلا مدى أو مجال.لهذا نجح الإغريق كمنتج فلسفي للمسرح، فيما نحن ضيقنا من قيمة المسرح، الذي بإمكانه أن يكتب نصا رائعا هزليا لحياتنا ومؤلما أكثر في حالات عدة، ولكن لا يجوز أن نحيل الحياة باستمرار إلى صورة قاتمة، حتى إن عشنا وحدة الشيخوخة بعالم من الألم الداخلي.كيف نجعلها وحدة جميلة في رحلة العمر؟ بحيث يلازمنا المونولوج كصوت في أعماقنا وذاكرتنا الماضية، لمجرد أن تلك التداعيات يفهمها الناس كصوت لا قيمة له صادر من بشر معزولين في أرذل العمر أو أن دورهم قد انتهى.أعتقد أن المجتمع جميعه ذاهب نحو محطات عدة، وعلينا أن نبني منظمات مدنية تعنى بذلك المونولوج المسرحي الرائع ولا تجعله يتلاشى في الفضاء دون قيمة، والأمثلة كثيرة في المجتمعات المتقدمة فكبار السن والمتقاعدون ليسوا فقط كتلة انتخابية ضخمة فحسب، بل قدرة إنتاجية متنوعة. وكم عرفت السينما والمسرح والكتابات الإبداعية إعادة إنتاج المونولوج الداخلي للشخصيات، ولكنها لم تهتم كثيرا إلا بجانب واحد منها، هو منحهم الشفقة لشخصياتها واعتبارهم محطات من الحياة أصيبت بعطب النسيان، بينما علينا أن نجعلهم جزءا من حياتنا اليومية، وإذا ما انتهت حياتهم فجأة، فإن ذلك الصوت الداخلي والمونولوج الإنساني الجميل انطفأ من حياتنا بالفعل، وعلينا ألا نقتله قبل أن يموت صوته في الحياة بين تلك الجدران العازلة المميتة التي أسميناها جزافا «بيوت العجزة».كم كريهة تلك التسمية والمعنى والدلالات والنهج في طريقة ثقافتنا لخنق مونولوجنا الإنساني قبل أوانه!!* كاتب بحريني كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء
مقالات
المونولوج الإنساني
02-04-2009