فيما إكمال لبنان ملفه القانوني المقدم الى مجلس الأمن كفيل وحده بإثبات لبنانية مزارع شبعا المحتلة تمهيداً لترسيم الحدود بين الجانبين اللبناني- السوري، إلا فأن وتيرة التقدم طيلة الفترة الفائتة لم تكن بالسرعة المطلوبة، بخلاف ما هي عليه اليوم على خلفية بروز معطيات اقليمية ودولية تضغط في هذا الاتجاه.

Ad

بسرعة قياسية قفز ملف مزارع شبعا الى الواجهة في الفترة الأخيرة، على رغم زحمة الملفات الداخلية الشائكة. المعطيات الذاتية ذات الصلة لم تتغير. المزارع لا تزال محتلة من العدو الاسرائيلي. الموقف السوري على حاله، ويقتصر على اعتراف شفهي بلبنانيتها من دون خطوات عملية.

صحيح أن رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، بعد أسبوعين من انتخابه، تحدث عن وثائق جديدة تثبت لبنانية المزارع ستقدم الى الأمم المتحدة، وصحيح أيضاً ان الدبلوماسية اللبنانية تبذل جهوداً في أروقة الأمم المتحدة، الا أنه ليس من شأن ذلك كله أن يعطي وحده الزخم الراهن للموضوع، والذي عبّرت عنه وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس أثناء وجودها في بيروت بإعلانها من القصر الجمهوري أنه «حان وقت التطرق إلى موضوع مزارع شبعا ولا سيما فيما يتعلق بتطبيق قرار الأمم المتحدة رقم 1701».

التحوّل الدولي والتسريع في تحريك الملف، والذي كان أثاره في بيروت قبل رايس الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ومن بعده وزير الخارجية البريطاني دايفيد مليبلاند، يأتي ثمرة اقتناع دولي بأن ما من وسيلة لمعالجة سلاح حزب الله الا بإنتفاء مبررات وجوده واستمراره، ولطالما أشار حزب الله على لسان قيادييه، مراراً وتكراراً، الى أن المقاومة في حالة جهوزية تامة ما دامت المشكلة مع العدو الإسرائيلي قائمة باحتلاله جزء من الأراضي اللبنانية وأطماعه بمواردها.

الا أن الأبرز فهو أن هذا الموقف الدولي الضاغط يأتي انسجاماً مع أجواء التهدئة في المنطقة، على وقع السرعة في المضي في ملف المفاوضات السورية الاسرائيلية، بالتزامن مع حصول الوزيرة رايس على موافقة الرئيس الاسرائيلي إيهود أولمرت على الانسحاب من مزارع شبعا، في موازاة طلب الرئيس السوري بشار الأسد من نظيره الفرنسي بأن يتم الانسحاب في مهلة أقصاها شهر (أغسطس) آب المقبل.

في بيروت، تلقف حزب الله الموقف سريعاً، وعلى رغم تريّث أوساطه في التعليق على تسريع ملف المزارع في الأيام الأولى واكتفائها بالإشارة الى أن تحريرها دبلوماسياً ما كان ليتم لولا صمود المقاومة واصرارها على تحرير كل الاراضي اللبنانية، الا انها سرعان ما عادت وشددت على أن نقل مزارع شبعا الى عهدة الامم المتحدة لن يغير وضع سلاح «حزب الله»، وأن «استعادتها من الاحتلال الصهيوني لن تغير المعادلة القائمة لجهة ضرورة لبنان وحاجته الى المقاومة». كذلك كان النائب في كتلة الوفاء للمقاومة حسن فضل الله أوضح، الخميس الفائت، أن «من يعتبر أن وضع مزارع شبعا تحت المظلة الدولية يمكن أن يشكل ضغطاً على المقاومة او ما يسمونه سحب الذرائع، هو واهم».

معطيات داخليَّة... وخارجيَّة

في سياق متصل، يشير الخبير في القانون الدولي الدكتور شفيق المصري لـ«الجريدة» الى أن جملة أسباب أدت الى تحريك الملف بهذا الشكل، أولها مصلحة لبنان المتمثلة بالإسراع في اقرار لبنانية المزارع استناداً الى القرار 1701، الذي أشار الى الموضوع وطلب من الامين العام للأمم المتحدة ملاحقته. هذه المصلحة عبّر عنها رئيس الجمهورية بإعلانه امتلاك وثائق جديدة تثبت لبنانية المزارع.

إلا أن العامل الأبرز، وفقاً للمصري، فهو انطلاق المجتمع الدولي من أغراض تتعلق بضرورة التهدئة في المنطقة في ضوء انجاح المفاوضات السورية-الاسرائيلية وتيسير المفاوضات الاسرائيلية الفلسطينية، ما يفسّر بالتالي الاهتمام الدولي لحل الملف دبلوماسياً للتهدئة في المنطقة، وليس على الصعيد اللبناني- الاسرائيلي فحسب.

هذا الاهتمام الدولي يتجلى أيضاً بالجهود المكثفة التي يبذلها الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لاحترام القرار 1701، الذي طلب في فقرته العاشرة من الامين العام أن «يضع، من خلال الاتصال بالعناصر الفاعلة الرئيسة الدولية والأطراف المعنية، مقترحات لتنفيذ الأحكام ذات الصلة من اتفاق الطائف، والقرارين 1559 (2004) و1680 (2006)، بما في ذلك نزع السلاح، ولترسيم الحدود الدولية للبنان، لا سيما في مناطق الحدود المتنازع عليها أو غير المؤكدة، بما في ذلك معالجة مسألة منطقة مزارع شبعا، وعرض تلك المقترحات على مجلس الأمن في غضون ثلاثين يوما». هذا، وقد عكست التقارير الأخيرة للأمين العام تحولاً ايجابياً داعماً لوجهة النظر اللبنانية، لا سيما بعد ايفاده خبيراً جغرافياً دولياً عاين الموقع.

مستندات إداريَّة وعقاريَّة وانتخابيَّة

في كتابه الأخير الصادر حديثاً تحت عنوان: «لبنان الحدود والمياه- وثائق جديدة عن لبنانية مزارع شبعا»، يوضح أستاذ التاريخ في الجامعة اللبنانية الدكتور عصام خليفة أن «كل التقسيمات الإدارية للبنان منذ فترة الإنتداب كانت تعتبر مزارع شبعا(وعددها 14، 13 منها لبنانية وواحدة سورية معروفة باسم «مغر شبعا»)، إضافة الى قرية النخيلة ضمن حدود لبنان، كذلك الأمر بالنسبة الى سجلات الأحوال الشخصية وسجل الأملاك العقارية والقرارات القضائية والإدارية ومحاضر الانتخابات النيابية.

في هذا الإطار، يوضح أستاذ الدراسات العليا الإدارية في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية الدكتور علي الشامي أن اتفاقية «بوله- نيوكومب»، التي اعتمدت في العام 1923، هي التي تحدد الحدود اللبنانية الفلسطينية السورية، ويجب العودة اليها وقراءتها جيداً، إذ أن مزارع شبعا والقرى التي يحتلها العدو الاسرائيلي اليوم كانت مدرجة ضمن الحدود اللبنانية وفقاً لهذه الاتفاقية».

كذلك يؤكد، بدوره، أن جميع بيانات الانتخابات النيابية والبلدية منذ الانتداب الفرنسي تلحظ هذه القرى، من هنا أهمية العودة الى الأرشيف الوثائقي وبيانات مشاركة سكان المناطق تاريخياً في الانتخابات، إضافة الى وجوب مراجعة ترسيم الحدود التي أقرها الدستور عام 1926.

يكشف خليفة في كتابه عن الكثير من الوثائق الرسمية الجديدة التي تؤكد لبنانية مزارع شبعا. تظهر الوثائق، التي تشمل 17 محضراً لبنانياً- سورياً، أن البلدين عيّنا عام 1946 الحدود بين شبعا اللبنانية ومغر شبعا السورية، وحدِّدت ورسمت على الأرض. تضم الوثائق أيضاً اتفاقاً نهائياً موقعاً باسم الحكومتين اللبنانية والسورية، اضافة الى خريطة تبرز النقاط الحدودية وترسيم الحدود في منطقة شبعا.

خليفة: ترسيم الحدود قائم

خلافاً لما تطالب به الدولة اللبنانية من ترسيم للحدود اللبنانية السورية بعد اثبات لبنانية مزارع شبعا، فإن خليفة وكما يوضح الـى «الجريدة»، يؤكد بالوثائق انه في العام 1939، جرت مساحة رسمية من قبل الدولة اللبنانية، وتبعها، بتكليف من الحكومتين اللبنانية والسورية، تعيين وتحديد وترسيم الحدود في منطقة المزارع . مثّّل لبنان القاضي رفيق الغزاوي والمهندس جوزف أبي راشد، ومثّل سوريا القاضي عدنان الخطيب والمهندس رشان المرستاني، وثمة اتفاق وخرائط موجودة يبرزها في كتابه. مما جاء في نص الاتفاق: «نحن القاضيين عدنان الخطيب ورفيق الغزاوي المعينين من الجمهوريتين السورية واللبنانية لحل الخلاف على الحدود التي تفصل بين قرية مغر شبعا السورية وقرية الشبعا اللبنانية، وبعد سماع اقوال الطرفين وتلاوة تقريري الخبراء والمهندسين المتضمنين اتفاق الطرفين المتنازعين، نقرر ما يأتي:

- اولاً: إن الحد الفاصل بين قريتي مغر شبعا السورية والشبعا اللبنانية هو الحد المرسوم على خريطة الدائرة الفنية السورية، يبتدئ به النقطة رقم 48 الفاصلة بين القرى الثلاث بانياس والمغر والشبعا ويمتد نحو الشمال ماراً بالنقطة التي تبتدئ بالرقم 47 حتى رقم 9 بالتسلسل العكسي. (...). وجاء في الفقرة الرابعة: «تفويض الدائرتين الفنيتين في سوريا ولبنان لتنفيذ هذا القرار».

المطلوب، بالتالي، من الجانب اللبناني استكمال ملفه المقدم الى مجلس الأمن لإثبات لبنانية المزارع، ومن ثم يصار بعدها، وفقاً لخليفة، الى وضعها موقتاً بعهدة الامم المتحدة، تمهيداً لاستعادتها من السلطة اللبنانية.

من ناحيته، يشير الشامي الى أن خطوة الترسيم تأتي في مرحلة أخيرة بعد الاعتراف بلبنانية المزارع، وهو من اختصاص خبراء الطوبوغرافيا المعتمدين لدى وزارة الدفاع في كل بلد.

المصري: لا حاجة لمعاهدة ثنائيَّة

التباين في وجهات النظر حول فرضية اعتبار ترسيم الحدود قائماً أو عدمه، والذي يحتاج بالتأكيد الى مضاعفة الجهد الرسمي المبذول لتبيان صحته، يقابله اجماع لبناني وقانوني على لبنانية المزارع، في مقابل اعتراف سوري شفهي بلبنانيتها.

في هذا السياق، يوضح المصري أنه «وفقاً للقانون الدولي واستناداً بشكل خاص الى قانون المعاهدات الدولية الصادر علم 1969، فإن اقرار المتحدث باسم الدولة يشكل التزاماً تعاقدياً، اذا قبلت به الدولة الأخرى من دون أي تحفظ».

كذلك يشير الى أن المادة السابعة من هذا القانون تنص على أنه يمكن لكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية التحدث باسم الدولة، لافتاً الى أن «التصاريح السورية التي أكدت لبنانية مزارع شبعا صدرت عن المسؤولين الثلاثة المحددين، وبالتالي تنتفي الحاجة الى معاهدة ثنائية بين الطرفين، ويتم الاكتفاء بالتصريحات فقط».

في الإطار نفسه، يتوقف المصري عند حالتين في الاجتهاد الدولي، حيث اعتبرت محكمتان، هما المحكمة الدائمة للعدل الدولي (عصبة الامم) ومحكمة العدل الدولية، أن الاقرار المنفرد من جانب الدولة يشكل نوعاً من الالتزام وإلزاماً قانونياً على الدولة التي تصدر هذا الاقرار.

يرى المصري، الذي يرفض استباق الامور والتحدث في آلية ترسيم الحدود، أن القضية الرئيسة تتمثل اليوم بانسحاب القوات الاسرائيلية المحتلة، أما ترسيم الحدود بين مزارع شبعا اللبنانية والاقليم السوري فأمر تفصيلي تقني، ينجز في وقت لاحق يُحدَّد بين الطرفين.

المزارع... من يد السوريين الى الإسرائيليين

وضع السوريون يدهم على مزارع شبعا الواقعة عند سفح مرتفعات الجولان في أوائل الخمسينات كأمر واقع، ثم ما لبثت أن أصبحت المنطقة في منتصف الستينات، مجالاً لتحرُّك المقاومة الفلسطينية(فتح لاند). أخذت سلطة الدولة اللبنانية تنحسر عنها تدريجياً، الى ان احتلتها اسرائيل بعد حرب 1967 وحولتها الى منطقة عسكرية، موسعة نشاطاتها باتجاه تلال كفرشوبا المجاورة، بعد أن دمرت الممتلكات وهجّرت الأهالي الذين ما زالوا يطالبون بتعويضاتهم حتى اللحظة. بعد حرب 1973، ألحقت هذه المنطقة، تبعاً للخرائط السورية، بمنطقة عمليات الاندوف (قوة الأمم المتحدة لفض الاشتباك بين إسرائيل وسورية في الجولان).

مع الانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، أبقت اسرائيل على احتلالها للمزارع بحجة أنها غير مشمولة بالقرار 425، بل بالقرارين 242 و338. تعتبر هذه المنطقة محط أطماع اسرائيلياً بامتياز، كونها غنية بالموارد المائية وتكثر فيها مراكز التزلج، كذلك تحتوي على مراصد للإنذار. تجدر الاشارة الى أن مساحة منطقة المزارع والنخيلة وتلال كفرشوبا لا تقل عن 40 كلم مربع.