تأليف: فاطمة أوفقير

الناشر: المركز الثقافي العربي

Ad

تبدو فاطمة أوفقير، زوجة وزير الداخلية المغربي الأسبق محمد أوفقير الذي أعدمه الملك المغربي الحسن الثاني في سبعينات القرن المنصرم لدوره في محاولة الانقلاب الفاشلة عليه، في سيرتها الذاتية، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، وهي تروي فصولا من حياتها في المغرب في مختلف مراحلها، كمن يقع تحت تأثير غواية جلاّده أو من كان ضحية لتعذيبه. دائماً ما تجد أوفقير الأعذار والمبررات لسلوكيات الحسن الثاني الإنسانية مع خصومه، وهي تدافع عن مرحلة حكمه تحت حجج واهية، مثل أنه استطاع جمع شمل البيت المغربي الذي كان عرضة للتفكك غداة تسلّمه زمام الحكم من والده ومغادرة الفرنسيين للمغرب ونيلها الاستقلال تالياً، وإن كان جمع الشمل هذا تم قسريا مسترشدا بالعنف وسيلة فضلى لتحقيق هكذا غايات. في مطلق الأحوال، لا تنفي الراوية حبّها وتأييدها للملكية كأسلوب حكم في المغرب إنما بعد حقنه بمقويات الحداثة والعصرية.

عائلات

حكت لنا الراوية، على امتداد 270 صفحة من الحجم المتوسط، عن طفولتها وكيف أنها تنحدر من إحدى العائلات القوية في إحدى القبائل التي كان أجدادها وأباؤها من الزعماء فيها، وكيف أنها، منذ ريعان شبابها، كانت تخالط الأمراء وتدخل إلى قصر الملك محمد الخامس كصديقة لعائلة الملك، وهناك تعرفت الى ولي العهد الذي سيصبح ملكا في ما بعد، أي الحسن الثاني، وكانت تربطها به علاقة صداقة ميّزتها عن علاقاته بالأخريات كونها نابعة من القلب، والحديث الصريح فحوى أحاديثها الدائمة حيث أنها، أي الراوية، واظبت على مصارحة الحسن الثاني بحقائق الأمور وبما يعتمل نفوس رعيته حتى بعد ما اعتلى العرش، وهي لم تكن تداهنه أو تستعمل أسلوب الرياء معه ، دافعها إلى ذلك حب الملك والملكية وحب خدمة الوطن .

أما زوجها محمد أوفقير فتروي في قسم خاص به عن كيفية تعرفها إليه وأن زواجها منه تم بطلب منها وبطريقة غير مباشرة، ذلك أنها أرادت التخلص من زوجة أبيها فاقترحت لذلك تزويجها من أحدهم على الرغم من أن هذا الطلب كان يعد في المغرب آنذاك من عظائم الأمور، لكن الأب رضخ للأمر وعرّفها إلى زوجها المستقبلي الذي وصفته بالحنون والصادق والمربي لها، ذلك أنها كانت تصغره بسنوات عدة، وعندما تزوجته لم تكن تجاوزت بعد بدايات فترة المراهقة.

استرجعت الراوية في سيرتها بطولات زوجها في الهند- الصينية عندما كان ضابطا في الجيش الفرنسي، إضافة إلى مواقع أخرى أدت في النهاية إلى تبوئه مراكز عليا ساعد من خلالها الوطنيين المغاربة في نيلهم الإستقلال.

أما في ما خص ما حكي عن دموية الرجل وعنفه مع معارضي النظام، سعت جاهدة الى تبرئته وحاولت مرارا إلصاق التهم بمساعديه، على الرغم من أنها كثيرا ما ذكرت عن توجّهه على رأس القوات لقمع العصيانات التي كانت تحصل في بعض المناطق وأنه كان مسؤولا عن جهاز الشرطة السرية وحامي النظام .

أشد نقاط الضعف في تلك الرواية هو ما قالته عن قضية المعارض المغربي بن بركة الذي اختفى أثره في باريس، إذ حاولت توجيه التهم عبر الإيحاء بأن دولا عدة لها مصلحة في إخفائه لكونه حليفًا للإتحاد السوفياتي السابق خصوصاً، وذكرت من ضمن الدول الولايات المتحدة الأميركية، وقالت أنه أثناء حصول عملية بن بركة كانت وإياه في رحلة عائلية بين جنيف وفرنسا لتفقّد ابنتيهما اللتين كانتا تدرسان هناك .

كأن تلك الحادثة تصلح كحجة مقنعة ولها قوة الدليل المثبت. في مطلق الأحوال، ستعود أوفقير لتذكر محاولة تدبير الانقلاب التي قام بها زوجها وهو معها يستجم قبل أيام من حصولها، الأمر الذي يدلل على عقم استخدام هكذا أدلة لتثبيت براءة هذا الرجل، ثم أنها طالبت في سيرتها الذاتية أن يكف إبن بن بركة عن العمل على كشف مكان دفن والده ليذرف الدمع عليه، ناصحة إياه بأنه عليه أن يبقي على ذكرى والده في قلبه وليس عبر أشياء مادية مثل القبر، قائلة إنها لم تزر قبر زوجها منذ وفاته مع أن مكانه معلوم لديها .

بالغت أوفقير في الدفاع عن زوجها والسجل الحافل له طوال سنوات خدمته على رأس جهاز ووزارة قمعية في ظل نظام ذاع صيته في عنفه ودمويته حيال خصومه السياسيين، فإذا لم يكن دور أوفقير على رأس تلك الوزارة القمعية ممارسة فنون المنع والإبعاد والتعذيب فلماذا أوكل إليه الحسن الثاني هذا المنصب إذا لم يكن خادمه المطيع؟

نستطيع الاستنتاج من سيرة أوفقير، كما أرادت لنا هي نفسها أن نستنتج، أن أمر اعتقالها وأطفالها الستة وما ذاقته من عذابات ومرارات في «حدائق الملك» لم يكن إلا مشاكل من ضمن البيت الواحد الذي لا يجدر بالآخرين التدخل فيه، ذلك أنها عادت وفور خروجها من السجن مع عائلتها إلى الانخراط ولو لفترة وجيزة في مجتمع الأمراء والأميرات، إلى أن وضع الملك الحسن الثاني نفسه حداً لتلك العلاقة بعد كثير من الإشاعات والتأويلات التي يمكن أن تسيء إلى هيبته .

غريب أمر أوفقير، فعلى الرغم مما فعله الحسن الثاني بها وبعائلتها تعود هي نفسها لتظلم عائلتها معها حين تقول في إحدى صفحات الكتاب: « هل أعاتبه ( أي الملك )؟ كلا فقد جعل السجن والعذاب مني امرأة مختلفة لن تظهر في حياة هادئة: امرأة صلبة واعية لعبورها هذه الأرض، الآن أعرف أن لا الفساتين ولا التبرج ولا السهرات هي ما تبرر وجودنا الزائل في هذه الدنيا، بل على العكس من ذلك إن العناء والألم يتيحان للكائن أن يحكم على نفسه ويقدرها، كان صوتا يهمس في أذنه هل انت جدير بالاحتقار أم أنك فعلا تستحق الإحترام « .

فهي وبتلك الأسطر كما لو أنها تشكر جلادها الذي لولاه ولولا ساديته ووحشيته لما تحولت أوفقير إلى إنسان يعرف معنى وجوده فهنيئا لها .

أما كيف بررت للملك طول المدة التي حكم فيها عليها وعلى أطفاله بالبقاء أسرى الزنازين والمعتقلات فتكتفي بسرد بضعة أسطر كافية لتعريف القارئ كيف تتحول الضحية إلى عاشقة لجلادها.

تذوّق

«أعتقد أن الحسن الثاني كان يعرف أن ذلك ليس صحيحا. ترى ما الذي كان يجول في خاطره ؟ لأنه مهما يكن، كان قلبه يعرف لحظات يرق فيها وتداخله مشاعر الرحمة وتلين عريكته. فقد شاهدته ذات مرة يبكي لمرض إبنه الصغير، رأيته متأثرا لذلك، فهو لم يكن مجرد ملك نفور، ولم تكن اللحظات التي أمضيتها معه كلها عصيبة. فقبل أن تحلّ بنا المصيبة والمأساة، عشنا في هناء وسعادة ورخاء، وشاهدنا أشياء لم يشاهدها سواد الناس وعرفنا لحظات لم يعرفها عامة الناس. لا يمكنني نسيان ذلك.

طوال حياته، عانى الملك من كونه لم يحظ بالحب الكافي في طفولته. وإذا كان لا يستجيب لمظاهر التذلل والخضوع ، فهو يستجيب تماما للحبّ. وقد خبرته حينما كان يتواجد بالقرب من القلة ممن يحظون بمحبّته وممّن يبادلونه ذلك الشعور. فهو لا يبدي حيالهم أية نزعة عدائية أو ارتياب. أعتقد أنه لم يظهر على طبيعته، ولم يتخلّ عن قناع صرامته سوى في مناسبات خاصة جدا، خاصة مع أولاده الصغار وإنما ليس مع جميعهم : فإبنه البكر، ولي العهد، قد ربي كما كان حاله هو، بطريقة صارمة وقاسية» .