نكاد نكون واهمين لو اعتقدنا أن هناك عسكريا في العالم ليس مصابا بزهو النياشين ومرضها، ويزداد ذلك الزهو في بلدان العالم الثالث، المشحون بذاكرة الانقلابات العسكرية وولع اللعب بتحريك الدبابات وإعداد البيان الأول، والحامل لشعار أكذوبة واحدة مكررة هي «الدفاع عن الشعب والشرعية». يدور العالم وعقرب ساعته بشكل غريب وعجيب، فيثير المزيد من دهشتنا، فخلال أيام معدودة كانت عدسات ووكالات الأنباء تنقلنا من مسرح إلى آخر ومن كارثة وزوبعة إلى أخرى، ومن حزن إلى فرح ومن فرح إلى حزن. ففي الوقت الذي كانت تستعد بكين لافتتاح دورتها الاولمبية المبهرة، كانت الدبابات العسكرية في موريتانيا تحاصر قصر الرئيس وتنتزعه -كما تُنزع روحه- من مقعد الرئاسة وتزجه في السجن، ثم تعيده برأفة إلى وضع أكثر «حشمة سياسية»، بحيث تضعه في حال حظر لكي تجعل من قلبه ورئته يدقان بشكل أفضل ويتنفس الصعداء بأدوية البقاء قبل أن يموت كمدا وقهرا، فقد ضاعت الشرعية بانقلاب عسكري، وبات الشعب مجرد مبخرة ومحبرة صغيرة في ديوان عسكري ومكتب بيروقراطي يوقع طلبات التوظيف لأبناء الأهل والعشيرة! في مثل هذه الأيام نفسها، كان على أوسيتيا الجنوبية أن تحتفل بلهب الموت ومشاعل قاذفات الدبابات، لتحيل ليلها ونهارها موتا، في وقت كانت بكين تستيقظ على عشاء الفرح وتغادر المدينة المحرمة لتلتقي بالامبراطورية الجديدة في استاد «عش الطير»، فمن هناك انطلقت الألعاب النارية والأساطير والتنين الصيني، لكي يبعث الصينيون إلى العالم برسالتهم التاريخية «إننا حضارة قديمة وعظيمة... إننا حضارة جديدة وعظيمة»... فلا تندهشوا من بلد البارود والطباعة والحرير، ولا تندهشوا من ورثة الإنسانية والحضارة الإغريقية، ففي هذا اليوم تُعلّق أشكال الضغينة والكراهية كلها لتعلن رسائل الحب والتسامح. في مثل هذه الأجواء الأولمبية، كان شاعرنا الكبير محمود درويش يغادر العالم، وكأنه شاعر إغريقي يلقي بقصيدة وداع في حفلة أولمبية، وكأنه «اوديسيوس» فلسطيني لم يصل بعد المرفأ الضائع، ولم ينه ِرحلة العذاب الفلسطيني، فكان قراره أن يوقف قلبه المنهك، الذي ظل منهكا منذ ولادته، فقد حمل الشاعر جواز سفر فلسطينيا كتب بداخله «سفر الخروج الأول والأخير... وعذابات بن درويش الأزلية». في مثل هذا المناخ كان هناك جنرال ما يحدق في نفسه أمام المرآة، وقبل الانقلاب بدقائق كانت زوجته الفخورة والطموحة لمقعد الرئاسة، تطبطب على كتفيه وتلمس النياشين الجديدة بحنان، وقد مست شفتاها إذنه هامسة، لعل تلك الهمسات الفواحة تهيّج مشاعره الانقلابية، إذ قالت له: «ها أنت أصبحت جنرالا أيها العقيد، فلا تنتظر أن تموت جنرالا منسيا، وهناك مقعد وثير ينتظرك تستحقه النياشين، وهو آخر موقع في السلطة تفوق نياشينك ولن اقبل بلقب زوجة الجنرال»! هناك مقعدي الحلم فأنا اطمح أن أكون «السيدة الأولى»، وهل توجد امرأة جنرال لا تحلم بعالم أفضل؟! وهل هناك أفضل من مقعد الرئيس الذي بدأ يشيخ قبل أوانه ويهددكم جميعا. كان لهمس النساء وحلمهن الذي يفوق حلم الرجال وبدلاتهم تأثيرهما، وككل قصص التاريخ، كانت الأنثى تقف خلف الأسرة الناعمة وتقدم كأس السم وفق المشهد الشكسبيري. قبل خروج الجنرال من الغرفة، وقبل أن يلقي بنظرة كبرياء إلى نفسه كـ«نرسيس» معاصر، نظر إلى زوجته بفخر كل الانقلابيين ورفع إصبعيه بعلامات النصر الثورية: «الموت أو النصر»، ثم خرج وقد كان ظله العسكري بانتظار إشارة التحرك.فهل كان قدر موريتانيا أن تصبح كقدر «جمهوريات الموز» وقصور البلاط الروماني الغابر؟ بحيث تلعب النساء والفساد والطموحات العمياء دورها، في تحديد مصير شعب كامل قرر ذات يوم أن يختار شرعيته. نكاد نكون واهمين لو اعتقدنا أن هناك عسكريا في العالم ليس مصابا بزهو النياشين ومرضها، ويزداد ذلك الزهو في بلدان العالم الثالث، المشحون بذاكرة الانقلابات العسكرية وولع اللعب بتحريك الدبابات وإعداد البيان الأول، والحامل لشعار أكذوبة واحدة مكررة هي «الدفاع عن الشعب والشرعية»، بل ويزداد أكثر عندما تتدخل النساء وتتحرك مشاعرهن الطموحة من خلال تحريك طموح الجنرالات، فيلعب عطرهن بشوارب أولئك المصابين بفحولة السلطة، فهناك دائما علاقة تبادل بين الفحولة كرمز للسلطة والمرأة كرمز الجنس والغواية، تلك العلاقة الثنائية الدائمة، المرهونة بالزهو وغواية السلطة وسلطة الغواية، تفسد كل أحلام الشعب المسلوب الإرادة ولو موقتا، والمخدوع بصوت بيانات التغيير والكذب! مأساة الجنرال -مشروع الفساد القادم- أنه تكملة لرئيس فاسد، ولكن الفرق بين الشخصيتين، أن الجنرال الانقلابي سلب السلطة باسم تصحيح مسار الديمقراطية والشرعية، بينما الرئيس المخلوع -زعيم منتخب ورائد للشرعية- ولكنه عندما تذوّق نكهة الكرسي تسربت في كيانه رائحة الفساد والتسلط، فخان الشرعية التي منحته الثقة وتعهد بصونها دستورياً، مَن وُعدوا باحترام الشرعية مهما كانت طرق اختيارهم الانتخاب أو الدبابة، يظلون في النهاية مشاريع لم تصمد للامتحان السياسي الديمقراطي، وتصبح الضحية الأولى والأخيرة هي الشعب صاحب الشرعية الحقيقي، الذي طعن في إرادته الحرة وفي وضح النهار. *كاتب بحريني
مقالات
غواية السلطة وسلطة الغواية!
17-08-2008