تحدثت مع من حاورتهم في واشنطن عن الدور المتوقع للإدارة الجديدة فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي وفي موقع القلب منه القضية الفلسطينية، فجزمت الأغلبية بأن أوباما عازم على الوصول إلى تسوية تفاوضية وفقاً لحل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين وكذلك على المسار السوري- الإسرائيلي ولن تحول لا حكومة يمينية إسرائيلية ولا استمرارية الصراع الفلسطيني-الفلسطيني بين السلطة و «حماس» أو المطالب السورية المتصاعدة بينه وبين إنجاز هذه الأهداف.

يبدو أن أميركا تتغير بالفعل مع أوباما، وأن الأميركيين راغبون في الإيمان بأن بلدهم سيتغير معه على نحو جذري، كان ذلك هو الشعور الأقوى الذي حملته إلى سلسلة من المشاهد والحوارات أثناء زيارتي الحالية لواشنطن. هي زيارتي الأولى للعاصمة الأميركية وساكن بيتها الأبيض هو الرئيس أوباما وإدارته ضالعة في الوصول إلى توافق مع مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ) حول حزمة تشريعات يراد منها إنعاش الاقتصاد الأميركي وإخراجه من أزمته وكذلك في استكمال تعييناتها للمواقع القيادية في الوزارات المختلفة ضماناً لانتظام دولاب العمل السياسي والتنفيذي.

Ad

شعبياً أبرز ما لفت انتباهي في واشنطن هي حالة التفاؤل العامة بوجود أوباما كرئيس، والثقة الكبيرة في قدرته على تغيير أوضاع المجتمع الأميركي إلى الأفضل. في المطار الدولي الأساسي بالعاصمة (مطار دالاس) باغتني ضابط الجوازات وعلى غير العادة بسؤال مباشر «كيف ترى رئيسنا الجديد؟ هل يشاطرنا العالم سعادتنا بأوباما؟». لم ينتظر الرجل (وهو من اسم عائلته ومن لكنته من أصول أميركية لاتينية) إفادتي، بل تابع بتأكيد على أن فترة بوش السوداء قد انتهت وأن الأوضاع الاقتصادية ستتحسن سريعاً. ثم تكرر ذات الجوهر في أحاديثي مع معظم من التقيت خارج سياقات عملي في مؤسسة «كارنيغي» وبعيداً عن التزاماتي المهنية، تفاؤل وثقة في أن أميركا على طريق العودة إلى سابق رخائها قبل الأزمة الاقتصادية والمالية الراهنة.

لم يهتم محدثي كثيراً بحقيقة استمرار تراجع مؤشرات الاقتصاد الأميركي، وبصفة خاصة مؤشر البطالة الذي تجاوز للمرة الأولى منذ الثمانينيات نسبة 7% وسلبية التوقعات حول العامين القادمين. لم يعنِهم غياب الوجهة الاستراتيجية الواضحة عن خطوات البداية التي قامت بها إدارة أوباما للتعامل مع الملفات الاقتصادية ومساعيها لإرضاء الحزب الديمقراطي بزيادة الإنفاق العام والجمهوريين بتخفيض السقف الضريبي على تناقض الهدفين. بل لم يشغلهم طويلاً حديث الرئيس الجديد الصريح عن عمق الأزمة وحتمية أن يتحمل المواطنون الأميركيون مسؤولياتهم في مثل هذه الأوقات الصعبة، فالتوقع الشعبي السائد هو أن أوباما يملك بلا ريب حلولاً ناجعةً وأن تطبيقها آت دون تأخير. رفعت حملة أوباما الانتخابية شعار «نعم... نستطيع» لتحفيز وإقناع المواطنين الأميركيين وبه حسمت الانتخابات لمصلحتها، واليوم يرفع المواطنون الشعار نفسه مع تعديل بسيط باتجاه الرئيس «نعم... تستطيع»!

كان لي خلال وجودي بواشنطن عدد من الحوارات مع مسؤولين في وزارة الخارجية ومساعدين لنواب وشيوخ في الكونغرس وباحثين وخبراء يعملون في مؤسسات أكاديمية ومراكز للعقول يجمعني بهم الاهتمام بالسياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط. اختلفت القضايا وتباينت محاور النقاش من تداعيات الحرب الإسرائيلية على غزة مروراً بتنامي وزن القوى الراديكالية في المنطقة وانتهاءً بأجندة 2009 السياسية الحافلة بالانتخابات والتوقعات بشأنها.

والغريب أن هذه العينة الممثلة للمطبخ السياسي المتابع للشرق الأوسط في واشنطن، وشخوصها أناس مدربون على توخي الموضوعية والابتعاد عن الإفراط في التفاؤل أو التشاؤم، عزفت- باستثناء القريبين من المحافظين الجدد وصقور الحزب الجمهوري - على نفس أوتار من التقيتهم خارج السياقات المهنية لجهة التأكيد على الثقة الكاملة في قدرات أوباما كرئيس وآمال التغيير الكبرى في السياسة الخارجية الأميركية التي يعلقها الجميع على عاتقه. عن العراق وإيران سألت، قيل لي سننسحب سريعاً من الأولى وننفتح تفاوضياً على الثانية لحل جميع المشاكل العالقة ومن بينها الملف النووي الإيراني (بالفعل، ثمة معلومات تتردد في واشنطن عن جولات جارية لمفاوضات بين الأميركيين والإيرانيين تعقد منذ أسابيع في واحدة من العواصم الأوروبية).

تحدثت مع من حاورتهم عن الدور المتوقع للإدارة الجديدة فيما يخص الصراع العربي-الإسرائيلي وفي موقع القلب منه القضية الفلسطينية، فجزمت الأغلبية بأن أوباما عازم على الوصول إلى تسوية تفاوضية وفقاً لحل الدولتين بين إسرائيل والفلسطينيين وكذلك على المسار السوري-الإسرائيلي ولن تحول لا حكومة يمينية إسرائيلية ولا استمرارية الصراع الفلسطيني-الفلسطيني بين السلطة و «حماس» أو المطالب السورية المتصاعدة بينه وبين إنجاز هذه الأهداف. وأكمل البعض قائمة الإنجازات المنتظرة بالتشديد على أن الدفع نحو الديمقراطية والانفتاح السياسي في الدول العربية وصياغة علاقة إيجابية مع شعوب العالم الإسلامي سيتحولان مع الرئيس ذي الأصول الإفريقية، والذي أمضى بعضاً من حياته في إندونيسيا المسلمة، إلى أولويتين حقيقيتين للولايات المتحدة تتجاوز أهميتهما سابق ما عهدناه مع إدارة بوش. لم تلق شكوكي حول مدى جدية مثل هذه الطروحات الوردية تجاوبا يذكر وهمشت دون تردد تحفظاتي النابعة من صعوبة الأوضاع الإقليمية في الشرق الأوسط ومحدودية الوقت والجهد المتوافر عليه أوباما لتحريك كل هذه الملفات في ظل أزمة اقتصادية ومالية خانقة بإشارات إلى كاريزما الرجل وقدراته وطاقات فريق السياسة الخارجية المحيط به. نعم... الرئيس يستطيع!

الأميركيون متفائلون جماعياً برئيسهم وواثقون مبدئياً من رجاحة قراراته وخطواته في مجالات السياسة الداخلية والخارجية المختلفة، ومن ثم لا حدود لتوقعاتهم الإيجابية حول الأعوام القادمة. أسرت كاريزما أوباما الجموع الكبيرة التي خرجت لحضور حفل تنصيبه ومئات الملايين من ورائهم، بينما أعاد لهم شعار التغيير الأمل في غد أفضل والإيمان بحتمية قدومه. هي إذن وبعد كارثية فترة بوش لحظة استثنائية بامتياز تلك التي تمر بها الولايات المتحدة مع الرئيس أوباما ومضامينها الخلاصية لا سبيل إلى إنكارها. وعلى الرغم من جمال اللحظة وبهجة المشاهد والحوارات المحيطة بها ودفئها الإنساني، فإن المأساة هنا تتمثل في كونها ترتب مجتمعة تعطيل مقومات النظر العقلاني في الشؤون العامة ومن ثم تذهب أدراج الرياح بالتمييز الضروري في السياسة بين الممكن والمأمول، بين الواقع والحلم. ليست الأزمة الاقتصادية وتداعياتها السلبية على المواطنين الأميركيين على سبيل المثال وبغض النظر عن قرارات وخطوات إدارة أوباما في سبيلها إلى علاج سريع، وكذلك يكون من باب الإمعان في تهميش الواقع السياسي في الشرق الأوسط افتراض أنه سيصل إلى تسويات سلمية للصراعات الدائرة في القريب العاجل. لذا فإن استعادة القدرة على التمييز بين الواقع والحلم وبالتبعية خفض سقف توقعات الأميركيين تجاه الإدارة الجديدة سيشكلان على ما يبدو تحدياً إضافيا أمام رئيس سيصبح قريباً في أمس الحاجة إلى رفع شعار «لا... الرئيس لا يستطيع دوماً».

* كبير باحثين في مؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي- واشنطن