انطلاقاً من قناعة بأن المزيد من الديمقراطية كفيل بمعالجة كل عيوب النظام الديمقراطي المعمول به في الكويت، كان لابد من هذه الوقفة والقراءة المتأنية للانتخابات البرلمانية الأخيرة.تختزل معظم القوى السياسية وأكثر سياسينا المحترفين العمل الديمقراطي في الانتخابات البرلمانية فقط، 5 منها قبل التحرير، و 6 منها في حقبة ما بعد التحرير، وبمعدل مرة واحدة كل 31 شهرا للحقبة الثانية، وما عدا ذلك لا شيء تقريبا. في حين أن العمل السياسي الديمقراطي هو أسلوب إدارة متقدمة، وأسلوب حياة يحتاج إلى العمل الدءوب لترسيخ ذلك التقدم والبناء عليه للمستقبل، وذلك لن يتحقق إلا بالعمل الجاد ما بين انتخابات وأخرى، وبالاستفادة الحقيقية من قراءة نتائجها، وليس بالاحتفال المبالغ فيه بتلك النتائج، ولا بالقنوط والغضب وردود الأفعال الضارة في حالة خسارتها. وقبل الحديث عن المقصود بالعمل الدءوب الجاد والمطلوب لاستكمال البناء الديمقراطي، لا بد من استعارة بعض العناوين الرئيسية من الصحافة المحلية بعد كل انتخابات نيابية جرت منذ عام 1992، والعناوين المنتقاة في الجدول المرفق، تقسم نتائج الانتخابات إلى قسمين متعادلين، ففي انتخابات الأعوام 1992 و 1999 و 2006 ، حققت القوى السياسية المعارضة للحكومة الأغلبية، وفي انتخابات الأعوام 1996 و2003 و 2008 حققت الحكومة و القوى المساندة لها الأغلبية البرلمانية.تحليل النتائج بدلا من شتمهاوهناك مبررات عديدة لذلك التذبذب في النتائج البرلمانية، ولكن قد يكون السبب الرئيسي هو انشغال القوى السياسية والسياسيين المستقلين بتكسير بعضهم بعضاً بعد كل فوز، تحت وهم أن الساحة السياسية قد دانت لهم. وبعد كل نتائج سلبية يعود الوعي المؤقت، ويبدأون في علاج جراح تسببوا فيها لبعضهم البعض، وخدموا كل أعداء الديمقراطية من خلالها طوعا وبكفاءة عالية، في حين أن ما لم يتحقق حتى الآن هو قيامهم بتحليل أدائهم في كل دورة انتخابية، وحماية أنفسهم من أنفسهم بالتوقف عن الكفر في خلافاتهم، داخل كل قوى سياسية، وبين القوى السياسية بعضها البعض، والبحث الصادق والملتزم عن القضايا ذات الأرضية المشتركة، مع القبول بمساحة رحبة من الاختلافات الجوهرية بينهم. فالمطلوب من القوى السياسية الاستفادة من تحليل النتائج بدلا من الاكتفاء بشتمها.رد الفعل الانفعاليوبافتراض أن الانتخابات النيابية محطة رئيسية في العمل السياسي الديمقراطي، ولكنها ليست كل العمل الديمقراطي ولا معظمه، وأنها وسيلة قياس رئيسية للحكم على أداء أي قوة سياسية ما بين انتخابات برلمانية وأخرى، يبقى المطلوب هو الجلوس وقراءة تلك النتائج وتغيير الاستراتيجيات والخطط والخطاب السياسي وفقا لتحليل هادئ، تخلص قدر الإمكان من رد الفعل الانفعالي وبعد وقت كاف عن تاريخ إعلان النتائج. ويبقى العمل لتأصيل الديمقراطية باستخدام إحدى مؤسساتها أو مجلس الأمة واجب كل القوى المؤمنة بالديمقراطية، والعمل الحقيقي هو ما بين انتخابات وأخرى.لقد أنجزت القوى السياسية خطوة كبيرة على طريق تأصيل الديمقراطية باختصارها الدوائر الانتخابية من 25 دائرة إلى 5 دوائر، رغم أنها من دفع ثمن الدمج. لقد دفعت ثمن الدمج لأنها انتخابات حدثت في دورة تاريخياً ليست في صالحها، ولأنها لم تستعد للتغيير بما يستحق من جهد، ورغم أنها حققت هدفا رئيسيا بإبعاد المفسدين الصغار، إلا أنها سمحت للمفسدين الكبار بتوسعة دائرة شراء الذمم ولم يطالهم القانون أسوة بالصغار.خارطة الطريق الجديدةوخارطة الطريق الجديدة هي مشروع متفق عليه لتأصيل الإدارة الديمقراطية للبلد، مأخوذا بالاعتبار بأن هناك من يدعو جهلا أو بداعي الفساد لوأدها، وأنه وللأسف الشديد، يجد آذانا صاغية لدى البعض المؤثرين. والمشروع قائم على أربعة قوائم، بعضها أسهل من الآخر، ولكن تحقيق أي جزء منها يعني إضافة إلى البناء الديمقراطي.وأول القوائم هو تعميق مبدأ هيبة القانون، ويبدأ من الدعوة إلى تخصيص مادة حول الدستور الكويتي في كل مراحل التعليم العام حسب سن الطلاب وقدرتهم على الاستيعاب، وأساس المادة هي مبادئ الحقوق والواجبات والمساواة، لتكون البديل عن الاحتماء بالسطوة والواسطة والقبيلة أو الطائفة أو المنطقة لتحصيل الحقوق وإلغاء الواجبات. ويتعمق على المستوى العام من خلال اهتمام القوى السياسية في نشر ثقافة الديمقراطية و المبادئ الدستورية والتسامح وقبول الغير في وسائلها الإعلامية أو وسائل الإعلام التي تشارك في حواراتها. فالأمر الذي لا بد أن تعيه هذه القوى، هو أن البيئة السياسية الداخلية ذات سوابق في الانقلاب على الدستور، وأن البيئة حولنا رافضة لتجربتنا، وأن أشد ما يضعف فرص الديمقراطية هو تشرذم القوى المدافعة عنها بإلغاء بعضها للبعض، بذلك تسهل عمل أعداء الديمقراطية.تفعيل وسائل الضغط المنظموالقائم الثاني هو استخدام قواها السياسية المنظمة في دعم عمل منظمات المجتمع المدني، وليس الاستيلاء على ما لدى بعضها البعض، فهذه المنظمات أو الجمعيات لا تزدهر سوى تحت سيادة قاطعة للقانون، وساحة سياسية ديمقراطية. وهذه المنظمات قنوات رئيسية لتفعيل وسائل الضغط المنظم على سلطات اتخاذ القرار، وهي قنوات أساسية لتنظيم العمل السياسي في أي بلد، وهي قنوات للتواصل والاستفادة مع مثيلاتها في العالم الديمقراطي. وفاعلية منظمات المجتمع المدني في كونها شبكة الأمان التي تحمي الديمقراطية عندما يتأثر أداؤها إلى الأسوأ وتساهم في تعديل أدائها، وهي خط دفاع دائم ضد المتربصين للانقلاب عليها.ثالث القوائم هو تحويل العمل السياسي من هواية إلى احتراف، فالعمل السياسي في البيئة الديمقراطية هو عمل محترف فقط، ولكي يتحول إلى محترف لا بد من قانون جامع مانع لإشهار الأحزاب. فالخطوة التي تحققت حتى الآن في دمج الدوائر خطوة إيجابية وكبيرة، ولكن ثمارها لن تنضج ما لم تخدم من قبل تنظيمات شاملة لكل فئات المجتمع، وتستطيع تنظيم وتمويل انتخابات على نطاق جغرافي واسع، ومستوى أعداد بشرية كبير. أن دمج الدوائر إلى أقل عدد ممكن هو مشروع إعادة بناء للدولة على أنقاض مشروع تفكيكها إلى طوائف وقبائل ومناطق، ولكنه مجرد خط للسكة الحديد، لن يكتمل سوى بتواجد القطارات، والقطارات هي الأحزاب السياسية التي تحمل كل الوطن في حاضره ومستقبله، وتنتخب وتعاقب على أساس برامجها وقدرتها على تنفيذها. ولا بد من سن قانون ينظم مالية تلك الأحزاب وينظم مالية الصرف على الحملات الانتخابية ويجرم وبشدة الرشوة المباشرة وغير المباشرة.تداول السلطة التنفيذية وإشهار الأحزاب إلى جانب أنه يخدم القوى السياسية المحترفة باختلاف اجتهاداتها، يعني بشكل غير مباشر إصلاح السلطة التنفيذية عاجلا أم آجلا، فالأحزاب السياسية سوف تعني تداول السلطة التنفيذية بدعم من أغلبية نيابية، وهو أمر لم يتحقق حتى الآن ومعه فشلت كل حكوماتنا، فكل ما ننسبه من السلبيات لديمقراطيتنا هو ظلم وبهتان، فلا نقد للديمقراطية إذا كانت آلياتها الصحيحة لا تعمل، وأهمها تداول السلطة التنفيذية.وآخر القوائم هو الجهد المكثف والصادق لمحاربة الفساد، فالديمقراطية والقدرة على تعميم سيادة القانون لا يتحققان في بيئة نشطة وحاضنة للفساد، والأهم فساد الكبار. وأفضل النظم الديمقراطية وأكثرها نجاحا تلك التي لا كبير فيها أمام القانون، فالذي حدث لكل من ريتشارد نيكسون، وبل كلينتون في أعظم الدول هو مثال للقدرة والرغبة في محاربة الفساد، ليس مختلفا عما حدث للرئيس الكوري الجديد، حين تم تجميد صلاحياته كرئيس لحين الانتهاء من التحقيق وتبرئته من اتهامات بالاحتيال والتورط في عمليات احتكار ومناورات في البورصة للتأثير على الأسعار، ورئيس شركة سامسونغ في كوريا الناشئة التي على الرغم من أن منتجاتها تشكل ربع صادرات كوريا الجنوبية، إلا أن رئيسها يحاكم بتهمة الرشوة وهي ثابتة عليه. والذي يحدث من غالبية القوى السياسية، هو إما «إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد»، وإما استخدام محاربة الفساد لتصفية بعضها البعض، وإما تعليق شعار دون تفعيل. فالقوى السياسية ملزمة بتبني قضايا محاربة الفساد بصدق وعزيمة، وأقترح أن تسمي فريقا من الثقاة المحايدين لمتابعة وتصنيف تلك القضايا حتى لو كانت تمس نفس القوى السياسية أو بعض المنتمين إليها، ثم تواجه كل المفسدين الآخرين بنفس واحد.إصلاح آلية العمل الديمقراطيوإن صدق التاريخ، وهو حتى الآن صادق، حتى لو عدنا إلى نتائج انتخابات عام 1971 مقابل انتخابات عام 1975، ثم انتخابات عام 1981 مقابل انتخابات عام 1985، فإن دورة الانتخابات القادمة ستكون نتائجها لصالح القوى السياسية. ولكن الخضوع للدورات دون القيام بجهد حقيقي لتغييرها لصالح القوى المنظمة ولصالح الديمقراطية، والأهم لصالح البلد، هو عمل عاجز. و ما دامت الظروف مناسبة، فإن الوقت مناسب لاجتماع مثمر بين كل الفاعلين سياسيا، بعد الإقرار بالاختلافات الجوهرية بينها، لإصلاح آلية العمل الديمقراطي مرة وإلى الأبد، وهو هدف يستحق السعي الحثيث من أجله.إنه اجتهاد، وبعضه ناتج عن بعض الإحباط، ولكنه نابع من قناعة راسخة بالديمقراطية وسيادة الدستور والقانون، ونابع من قناعة بأن النظام الديمقراطي كفيل بالمزيد منه على معالجة كل عيوبه، وقناعة نابعة بحب صادق وعميق بالإيمان بالكويت، كل الكويت، وكل ناسها.
محليات
قراءة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة: التذبذب في النتائج يعود إلى انشغال القوى السياسية بتكسير بعضها بعضاً الديمقراطية والقدرة على تعميم سيادة القانون لا تتحققان في بيئة حاضنة للفساد
06-07-2008