بما أن النقاط التي أقرت في البيان الختامي تعكس استجابة قمة العشرين للكثير من المطالب الأميركية والبريطانية، فإنها تدلل أيضاً على حد ما من التعاطي الإيجابي مع المواقف الألمانية والفرنسية وبعض المطالب غير الغربية.

خلال الأيام القليلة الماضية اتجه اهتمام المتابعين للشأن الاقتصادي العالمي إلى العاصمة البريطانية لندن، حيث عقدت اجتماعات قمة مجموعة العشرين للبحث في استراتيجيات الخروج من لحظة الركود الراهنة، وعلى الرغم من التأكيد العلني للدول المشاركة على أولوية التوحّد في مواجهة الأزمة الأخطر التي يتعرض لها الاقتصاد العالمي منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فإنّ الخلافات بين الولايات المتحدة وبريطانيا من جهة وألمانيا وفرنسا من جهة أخرى، فضلاً عن تمايز الموقف الصيني طغت على القمة وحالت دون التوافق على سياسات جماعية حقيقية.

Ad

فإدارة باراك أوباما وحكومة جوردن براون أرادتا في المقام الأول من الدول الكبرى المجتمعة في لندن الالتزام بزيادة حجم الإنفاق العام لتنشيط دوراتها الاقتصادية ومن ثم الحيلولة جماعياً دون استمرار تراجع معدلات التبادل التجاري العالمي وانهيار أسواق المال وتحول لحظة الركود إلى حالة كساد ذات تداعيات أعمق وأخطر. التوجه الأميركي والبريطاني هنا لا يجد أي غضاضة في استدانة الدول لتمويل الزيادة في إنفاقها العام ولا يلتفت طويلاً للحدود القصوى للاستدانة الآمنة. أما الحكومة الألمانية ونظيرتها الفرنسية فرغبتا في دفع قمة العشرين نحو مراجعة النظم المالية والمصرفية العالمية للحد من النشاط الإقراضي المستهتر الذي تعتبره كل من برلين وباريس المسبب الأساسي للأزمة الراهنة ويحملان الأسواق المالية الأميركية والبريطانية الشق الأكبر من مسؤولية تماديه في الأعوام الماضية. كذلك لم تتحمس ألمالنيا وفرنسا للالتزام برفع غير مسؤول لمعدلات الإنفاق والدين العام خوفّا من الآثار التضخمية التي قد تترتب عليه، وقبل الذهاب إلى لندن بأيام، وبعد أن أرسلت الحكومة البريطانية إلى العواصم المشاركة مسودة لبيان قمة العشرين الختامي خلت من ذكر أي إجراءات فعلية لإصلاح النظم المالية والمصرفية العالمية، هدد الرئيس الفرنسي ساركوزي بعدم التوقيع على البيان الختامي إن لم يتم تدارك الأمر، وتضامنت معه المستشارة الألمانية ميركل بوضوح.

ثم جاء الموقف الصيني ليضفي بعداً جديدًا من الخلافات بين توجهات الدول الكبرى قبل انعقاد القمة، ففي تصريحات متتالية لرئيس الوزراء وحاكم البنك المركزي، طالبت بكين باستبدال الدولار بسلة من العملات الرئيسة كأساس جديد للنظام المالي العالمي، وتحدثت عن حتمية إنهاء هيمنة العملة الأميركية على أسواق المال، التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي.

اكتسبت هذه الدعوة، ولكونها أتت من الدولة صاحبة الاحتياطي العالمي الأكبر من الدولار خارج الولايات المتحدة، أهمية سياسية قصوى ودعمتها دول أخرى كروسيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي التي ربطتها أيضاً بإصلاح المؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي، وتعالت كذلك أصوات بعض عواصم الدول غير الغربية المشاركة في قمة العشرين، منادية بدور أكبر للعالم النامي في تحديد السياسة الاقتصادية والمالية العالمية وبأولوية حماية المجتمعات الفقيرة من تداعيات الأزمة الراهنة التي ضربتها بقوة شديدة، كما دللت التقديرات الأخيرة للبنك الدولي لتصاعد معدلات الفقر والبطالة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، فعلى سبيل المثال، طالب الرئيس البرازيلي لولا، وبعد أن اتهم «الغرب الأبيض» بإغراق العالم في أزمة طاحنة من «صناعة مضاربين ومقامرين بعيون زرقاء وشعر أشقر»، بضمان تمثيل حقيقي للعالم النامي في المؤسسات المالية العالمية، وأخذ مصالحه بعين الاعتبار حين مناقشة مضامين سياسات الإقراض الجديدة.

بهذه التوجهات والمطالب المتناقضة ذهبت الدول الكبرى إلى لندن أملاً في الوصول إلى توافق حد أدنى يحمي الاقتصاد العالمي من شبح الكساد، وبعد سلسلة من المفاوضات الجماعية والثنائية نشطت بها الدبلوماسية الأميركية والبريطانية أقر المجتمعون بيان قمة لندن الختامي، الذي ضمّن النقاط الرئيسة التالية:

1- التزام مجموعة العشرين بضخ 5 تريليونات دولار حتى نهاية عام 2010 لتحفيز الاقتصاد العالمي وحماية استقرار الأسواق المالية ومكافحة البطالة.

2- تقديم 500 مليار دولار إضافية لموازنة صندوق النقد الدولي لمساعدته على الاضطلاع بمهامه في ضبط الأسواق، ومن ثم ضمان الاستقرار المالي، وكذلك في إقراض الدول النامية لسد العجز في موازناتها، كما اعتمد بالإضافة إلى ذلك مبلغ 250 مليار دولار لإقراض الدول النامية في حالات الضرورى القصوى.

3- إعداد قائمة بالدول التي لا تتعاون بشأن قضية التهرب الضريبي وتشكل بالتبعية ما يسمى ملاذات ضريبية آمنة (كبعض الدويلات الأوروبية الضغيرة مثل إمارة ليشتينشتاين وموناكو).

4- تقديم مبلغ 448 مليار دولار لدعم الدول الفقيرة ومساعدتها على مواجهة الآثار المجتمعية الخطيرة (الفقر والبطالة وغيرها) للأزمة الراهنة.

5- اعتماد مبلغ 250 مليار دولار لتنشيط التبادل التجاري العالمي خلال العامين القادمين ورفض السياسات والممارسات الحمائية التي قد تحد منه وتعوقه. وفي حين تعكس النقاط السابقة استجابة قمة العشرين للكثير من المطالب الأميركية والبريطانية، فإنها تدلل أيضاً على حد ما من التعاطي الإيجابي مع المواقف الألمانية والفرنسية وبعض المطالب غير الغربية، فالالتزام بضخ 5 تريليونات دولار لتحفيز الاقتصاد العالمي يمثل النجاح الأبرز لواشنطن ولندن، بينما يعبر التوجه نحو مكافحة التهرب الضريبي عن استجابة جزئية للرؤية الألمانية الفرنسية الداعية لإصلاح النظم المالية والمصرفية، أما تقديم 448 مليار دولار لمساعدة الدول الفقيرة، وعلى الرغم من عدم بلورة آليات واضحة في هذا السياق وصعوبة تحديد حجم الاحتياجات الفعلية للدول الفقيرة خلال الأعوام القادمة، فشكل انتصارا مهما للدول غير الغربية المشاركة في قمة العشرين، وأعطى للأمل في عودة شيء من التوازن للنظام الاقتصادي والمالي العالمي بعض المصداقية.

أخيراً، وعلى الرغم من تأكيد بيان لندن الختامي على رفض السياسات والممارسات الحمائية والتزام الدول الكبرى بحرية التجارة، فإن البيان هنا جاء شديد القصور والضعف في ظل غياب التوافق حول إجراءات محددة وملزمة.

لم تفشل قمة العشرين إذن، بل نجحت في بلورة توافق حد أدنى بين الدول الكبرى وألزمتها بمقررات مهمة... نعم لم ترق القمة إلى مستوى توقعات بعض المغرقين في التفاؤل، والتي رأت فيها إمكانية لبداية جديدة للنظام الاقتصادي والمالي العالمي، إلا أنها قدمت بعض الحلول المأمول منها، وكما أعلن رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون «تقصير عمر الأزمة الاقتصادية وحماية العمالة عالمياً».

* أكاديمي مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء