تستبطن المخيلة العربية في أكثر صورها النمطية حداثة حيال تركيا استخدام الجار العائد إلى المنطقة كعامل من عوامل «التوازن» كما تفهمه هذه المخيلة، وليس كما يرى الأتراك أنفسهم باعتبارهم يقفون على مسافة واحدة من كل الأطراف الإقليمية، وفي الوقت الذي لا يمكن فيه إطلاق الأحكام ودمغ كل النخبة العربية بمعاداة تركيا، إلا أن الملاحظ أنه حتى من ينظرون إلى تركيا بمعزل عن الإسقاطات التاريخية، أو محاولة استخدام تركيا «عامل توازن» في مواجهة إيران، يعانون تحت وطأة حكم مسبق من نوع آخر، وتتمظهر الصورة النمطية الأخيرة في الترحيب الهائل بوصول «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة في أنقره باعتبار ذلك انتصاراً لمصلحة «الأصدقاء» من الإسلاميين على حساب «الأعداء» من العلمانيين الأتراك. ويؤرخ هذا الترحيب المبالغ فيه للعلاقات مع تركيا منذ هذا الانتصار الانتخابي، مع أن العلاقات العربية التركية تعود إلى أيام الإمبراطورية الرومانية والبيزنطية والعثمانية وليس إلى خمس سنوات خلت؛ بعد أن يضع «منظاراً إيديولوجياً» من نوع جديد على أبصار المهتمين بتركيا وقضايا الحوار معها. ويعود ذلك إلى عدة أسباب أهمها عزوف شرائح كبيرة من النخبة التركية، خصوصاً من غير الإسلاميين، عن الاهتمام بالشرق الأوسط وقضاياه. كما أن الاهتمام المتزايد بالمنطقة من طرف «حزب العدالة والتنمية»، وهو أمر يحسب للحزب لا عليه، يجعل المخيلة العربية ترى تركيا بمنظار «حزب العدالة والتنمية»، وبحيث يبدو في أحيان كثيرة أن تركيا هي بلد «حزب العدالة والتنمية»، مع أن الأخير هو حزب تركي من ضمن أحزاب تركية أخرى. لم تعد تركيا واجهة لدول عظمى في المنطقة كما كانت ربما في السابق، إنها الآن دولة إقليمية نافذة، لها مصالح وطنية تتوخى تحقيقها عبر تحالفات دولية وإقليمية، ويجب النظر إليها ضمن هذا الإطار، وتستهدف السياسة الخارجية الجديدة في تركيا ترسيخ نفوذها بالمنطقة، ونقلها من عضو في محاور وأحلاف مع دول ضد أخرى، إلى مركز إقليمي يحتفظ لنفسه بمسافة من الجميع ويتواصل معهم في الوقت نفسه، وهنا يلفت الانتباه ملاحظة أصدقاء من المثقفين الأتراك جالوا على القاهرة أخيراً بأن جيرانهم العرب لا يفهمونهم بالشكل الكافي، بمعنى أن الخيال السياسي العربي ينطلق الآن في نظرته الراهنة والمسيسة إلى تركيا من كونها «ثقلاً موازياً» يمكن عن طريق استخدامه موازنة النفوذ الإيراني في المنطقة. يعتبر المثقفون الأتراك أنهم ليسوا نموذجاً يحتذى لدول المنطقة ولا ينظرون إلى إيران باعتبارها منافساً إقليمياً، وهم يعتقدون أن الحركة التركية في المنطقة سواء حيال العراق والكيان الكردي في شماله، أو حيال سورية والتوسط في العملية التفاوضية بينها وبين تل أبيب تأتي على خلفية المصالح الوطنية التركية أولاً وأخيراً، وليس خدمة لقوى كبرى كما يشيع الاعتقاد في المنطقة. على هذه الخلفية فإن العرب مطالبون برؤية تركيا بأبعادها المختلفة وأوجهها المتعددة، وليس من المنظور الذي يحلو لهم أن يروها فيه، سواء وجهها العلماني أو وجدانها الشرقي، ولأن الجغرافيا هي قدر الأمم، يجب على العرب التعامل مع تركيا باعتبارها جاراً تاريخياً وحضارياً يتفق معه ويختلف وليس ملاكاً لا يأتيه الباطل من أمام أو من خلف؛ أو شيطاناً تتوجب علينا في كل الأحوال عداوته، وحتى لا تكون المطالبات في اتجاه واحد، ربما تكون تركيا وأحزابها المختلفة مطالبة بإبراز أفكارها ورؤاها للمنطقة وأن تتفاعل بجدية أكبر مع قضاياها، وصولاً إلى تحرير تركيا في المخيلة العربية من ذلك الاحتكار الذي ظلت تعانيه منذ قيام الجمهورية عام 1923 حتى الآن. الرؤية الموضوعية الأقرب إلى الدقة لتركيا هي الشرط الأساس للتحاور معها على قاعدة المصالح المتكافئة لكل طرف، وهي قبل كل ذلك المدخل الذي لا مندوحة عنه للإطلالة العربية على الجار التاريخي الذي نشترك معه في الكثير من القواسم المشتركة والذي يقدم تجربة تاريخية مليئة بالدروس فائقة الأهمية، فما أكثر العبر وأقل الاعتبار!* مدير مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية-القاهرة.
مقالات
العرب وتركيا و الصور النمطية (2- 2)
11-12-2008