منذ أصدر الروائي اللبناني الأصل، الفرنسي الجنسية أمين معلوف روايته التاريخية «ليون الإفريقي» (1986)، عاد كتاب غربيون وعرب إلى سيرة الرحالة والعالم الجغرافي العربي الحسن الوزان، الذي عاش في القرن السادس عشر الميلادي، وهو الحسن بن محمد الزياتي الفاسي الشهير بـ{ليون الإفريقي» الذي عاش تناقضات وتحدّيات كثيرة وهويات متعددة:‏ ختنه حلاقٌ في غرناطة طبقاً للدين الإسلامي، وعمّده بابا الفاتيكان حسب التقاليد المسيحية، ووقع في الأسر فذاق مرارة العبودية وبؤسها.‏ جاب ثلاث قارات برّاً، آسيا وأفريقيا وأوروبا. يسمى الإفريقي وليست إفريقيا مولده، الأوروبي وليست أوروبا داره، يعرف بالغرناطي والفاسي والزياتي وليس من إحداها. يرى بعض المؤرخين أنَّ حياة الترحال لم تتح له فرصة الزواج، ويقول آخرون أنه تزوج وأنجبت له زوجته طفلاً سماه جوزف. كتب أمين معلوف أن ليون تزوج فتاة يهودية متنصّرة أنجبت منه ابنه يوسف أو جوزف.

Ad

الحسن الوزان سير في سيرة، هويات في هوية، تناقضات في تناقض، رحالة يحمل تقاطعات لعوالم وشعوب وأمم، إنه «ماضي الأيام الأتية» تكشف سيرته عن تفاصيل مهمة تجسّد عمق المواجهة مع حالات التردي التي تقفز فجأة لتجهز على مشاريع التكوين الفكري للمبدع الفرد وللأمة. ذات يوم تذكر أنه يسير في اتجاه صحيح ووضع لرحتله علامات بهدف الوصول إليها، وفجأة تغيّر كل شيء في حياته وتحوّل اسمه من «الحسن الوزان» إلى «ليو الأفريقي»، فتغيرت أمور كثيرة تبعاً لذلك، منها ديانته وتاريخه.

تذكّر أمراً مهماً وقرر البدء من جديد، وعندما دقق في أوراقه الثبوتية وجد أنها تشير إلى ولادته في غرناطة قبل سقوطها بنحو 10 سنوات، وأن أسرته كانت تعمل في التجارة، وبعدما شعرت بالخطر القابع خلف الأبواب الذي يهدد آخر قلعة حوصر فيها سلطان العرب في مملكة غرناطة، انتقلت إلى فاس التي ازدهرت في مطلع حكم «بني وطاس» الذين استعادوها إلى حكمهم في جزء من المغرب كان يعاني من صراع الأمراء وتنافسهم.

تقول المصادر التي أرّخت لحياة الحسن الوزان إنه ولد في غرناطة عام 893 هـ 1488م، ولما سقطت الدولة الأندلسية في أيدي الإسبان عام 1492، غادرت أسرة الوزان غرناطة وعبرت مضيق جبل طارق إلى المغرب، واستقرت في مدينة فاس المغربية، وأنفق الحسن الوزان سنيّ حياته الأولى في تلك المدينة، وتعلم فيها النحو والأدب والشعر والتاريخ والفلسفة والشريعة، وكان أبو الحسن يعيش في سعةٍ ورغد في قصر بالقرب من تلك المدينة المغربية واشتغل في حداثته بالتوثيق في «مارستان» في فاس.‏

مغرب

استهلّ رحلاته في أنحاء المغرب وأواسط إفريقيا برحلة رافق فيها عمّه إلى تمبكتو عام 910هـ 1504 م وكان عمره آنذاك 17 عاماً، وكان عمه انتُدب ليكون سفيراً لسلطان فاس إلى سلطان تمبكتو، ويذكر الحسن عن عمه أنه كان شاعراً وخطيباً مفوّهاً، وقدِّر للحسن أن يشهد في تلك المرحلة سائر ممالك إفريقيا الوسطى وحوض نهر النيجر، وأن يطلع على جغرافيتها وأحوالها، وكانت تمبكتو يومذاك في أزهى عصورها، إذ كانت قاعدة لمملكة كبيرة واسعة تحكمها أسرة «سونجاهي».

أما رحلاته إلى المشرق فلم يترك كتاباً مفصلاً لها كما هي الحال في المغرب، والمعلوم أن الوزان قام بمجموعة من الرحلات المشرقية إلى القسطنطينية، الأولى عام 1516 والثانية عام 1520، وعندما عاد من رحلته الأولى عرّج على مصر وفي رحلته الثانية زارها مرتين.‏ بعد الفتح التركي لها عام 1517، ركب أمواج النيل إلى أسوان، ثم رجع إلى قنا، ثم عبر البحر الأحمر إلى ينبع في الحجاز ثغر المدينة المنورة ومنها إلى جدة، ويعتقد بعض المؤرخين أنه أدى فريضة الحج، وتقول معلومات إنه اخترق الحجاز ونجد فوصل إلى بلاد فارس وخصوصاً تبريز وأرمينيا.

لا تثبت الأسباب التي دفعته إلى تلك الرحلات، ثمة من يقول إنها كانت لدوافع تجارية، وربما كانت للاستطلاع والاكتشاف. قبل ذلك كان زار اسطنبول وقرر ألا يصف تلك البلاد الأسيوية في كتابه عن إفريقيا لكي لا يخل بالمنهج العلمي الذي ارتآه، غير أنه وعد أن يصف ـ في كتاب آخر ـ البلاد الأسيوية التي زارها كالصحراء العربية واليمن وسيناء، والجزء الأسيوي من مصر، يقول:»هي بلاد شهدتها كلها واخترقتها أيام شبابي، وسوف أصف رحلاتي الأخيرة من فارس إلى قسطنطينة إلى مصر، ومن مصر إلى إيطاليا، وهي رحلة رأيت فيها عدداً من الجزائر المختلفة وأجزاء من بلاد التتر».

قيّض لرحلاته، التي بدأها سنة 1511، أن تنتهي سنة 1518 بتلك النهاية المحزنة في أولها، السعيدة في آخرها، إذ وقع أسيراً في ذلك العام، وهو عائد بحراً من القسطنطينية إلى الشام ومصر وانطلق من ميناء الإسكندرية بحراً إلى تونس، في يد بعض القراصنة، بالقرب من جربة في تونس وكان ذلك أواخر سنة 1519 وأوائل سنة 1520، فلما توسموا فيه النجابة حملوه إلى روما حيث قدموه هدية إلى البابا «ليو العاشر» من أسرة مديتشي، وهو ابن لورنزا أمير فلورنسا، وكان هذا البابا من باباوات عصر النهضة، واشتُهر عنه أنه دان بالمذهب «الإنساني المستنير»، وكان بينه وبين فرانسوا الأول ملك فرنسا سنة 1515 مناقشات حول مشروع حملة صليبية ضد الأتراك العثمانيين، الذين امتد نفوذهم إلى بلاد الشام ومنها مدينة القدس خصوصاً. بسبب ذلك، ازداد اهتمام إيطاليا بالشرق. استرعى اهتمام البابا هذا الرحالة الأسير، فكان حريصاً على أن يتعرف الى أحوال إفريقيا عموما والإسلام الذي يقف في الشاطئ الجنوبي للبحر المتوسط خصوصاً، علماً أن الأسرى يومئذ كانوا يعتبرون عبيداً، وكان مثل هذا المصير ينتظر الوزان، فأمر بإطلاق سراحه وإعادة حريته إليه، ورتب له مرتباً ممتازاً يتناسب مع مؤهلاته كيلا تحدثه نفسه ترك الكنيسة البابوية، وعمّده بنفسه.

كان وصوله إلى روما بعد أسره حدثا مهماً، إذ سجلته أقلام ومذكرات الشخصيات المهمة في ذلك العصر، كانت حفلة تنصيره، التي تمت بعد خمسة أشهر، احتفالاً كبيراً في ساحة سانت بيتر، سيأخذ التنصير الوهم حيزاً مهماً في كتب المستشرقين الذين يبحثون عن القضايا الشائكة والوهمية في معظم الأحيان.

أسماء

يحار المرء في التسميات المختلفة التي ألصقت بهذا الرجل، سماه أبوه «الحسن بن محمد الوزان»، ولما تسلمه البابا «ليون العاشر» سماه «جيوفاني ليوني» ولصفاتٍ تميّز بها ألحقه بأسرة «آل مديتشي» فسمي «يوهانس دو ميديتشي»، ونسي المؤرخون اسمه العربي، فأصبح «ليون الإفريقي». تتملك المرء الحيرة مرة ثانية من تلك الصفة، هل هو إفريقيّ حقاً؟!‏ من التسميات نعرف مسار لغز ليون الإفريقي، والأسماء إذ تتغيّر يكون تغيّرها تعبيراً عن تحوّل أشمل وأعرض.

عاش الوزان في روما تحت رعاية البابا، وبسبب اهتمام الأخير بالقضايا الإفريقية شجّع الوزان على تعلّم اللغة الإيطالية والكتابة بها. ساعدته معرفته اللغتين الإسبانية واللاتينية، ليصف رحلاته، فجمع حصيلتها في كتابه «وصف‏ إفريقيا». أتيحت له فرصة تدريس اللغة العربية في جامعة «بولونيا» لعدد من العلماء ورجال الدين، وكان من تلاميذه الكاردينال جيدو أنتونيني. لكن صديقه وحاميه البابا توفي عام 1521، وكان الوزان يعيش وحيداً بلا زوجة، ولم يُعرف أنه تزوج أو كانت له صلة معينة بالنساء في ذلك العصر الحافل بالحياة المرحة في روما.‏ بفضل إجادته اللغة الإيطالية، تمكّن من ترجمة كتابه العربي الذي كان يحمله معه أثناء وقوعه في الأسر إلى الإيطالية، وقال أحد المؤرخين الأوروبيين إن القراصنة أهدوه مع كتابه إلى البابا، ثم نُشر بعد ذلك مراراً وتُرجم إلى الفرنسية عامي 1556 و1559 وإلى الألمانية عام 1805.‏

بدأ لغز الوزان مع صدور الطبعة الأولى من كتابه «وصف إفريقيا»، فقد اختار ناشر الكتاب الأول جيوفاني باتيستا راموزيو الإسم المسيحي للوزان جيوفاني ليوني افريكانو، وتبنت اللغات الأوروبية بتنوّعات مختلفة الإسم الذي ورد في الطبعة الأولى في البندقية، ضمن السلسلة التي كان يصدرها راموزيو، «إبحار ورحلات». بقي ليون الإفريقي حتى القرن العشرين شخصية هامشية ولم يكرّس الباحثون وقتاً لقراءة الكتاب وتحليله، حتى بداية الاهتمام الفرنسي بإفريقيا.

مع رواية أمين معلوف تكرَّس «ليون الافريقي» رمزاً للحوار والتفاعل الحضاري بين الشرق والغرب. تعرّف الجمهور إلى شخصيته المثيرة، ذلك أن قلة من الباحثين والاختصاصيين استطاعت أن تميّز بين ما هو متخيّل وروائي في عمله، وبين الحقائق التاريخية المتعلّقة بالوجود الفعلي لهذه الشخصية ذات المسار الملتبس المشوب بالكثير من التقلبات.

إذا استثنينا رواية معلوف، لم تتوافر حتى الآن سوى ثلاثة بحوث حاولت التوثيق لشخصية الوزّان أو «ليون الإفريقي» ومؤلفاته. الأول كتبه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون عام 1906 بعنوان «المغرب الأقصى في السنوات الأولى من القرن السابع عشر: لوحة جغرافية حسب ليون الأفريقي». ظل مفقوداً من المكتبات لأكثر من نصف قرن، قبل أن تُعاد طباعته عام 1996، بمبادرة من المكتبة الوطنية للمملكة المغربية. أما العمل الثاني، فهو عبارة عن رسالة دكتوراه للباحثة زيري أم البنين عنوانها «إفريقيا في المرآة الأوروبية: من ليون الإفريقي إلى عصر النهضة». مع ولادة جيل جديد من الباحثين والاختصاصيين في الشؤون الإفريقية، ظهر تعامل جديد مع الوزان وكتابه، حيث تجادل الباحثون حول وصفه لإفريقيا بين من يرون أنه قدّم وصفاً دقيقاً عن ممالك ومجتمعات غير معروفة، خصوصاً أنه زار الممالك المعروفة كلها في زمنه حتى النوبة ومنها ذهب الى القاهرة، ومرّ على ممالك مالي وبحيرة تشاد والنيجر. أما الآخرون فقالوا إنه شوّه صورة المجتمع الإفريقي من خلال الحديث عن قضايا في غير محلّها، وقدّم رؤيته عن تلك المناطق بناء على قصص جمعها وسمعها أثناء زيارته لتمبكتو، ولذلك قامت الباحثة المغربية أم البنين زهري بتحليل رحلات قادتها إلى أميركا ومتابعتها، وقدمت دراسة عن أثر النسخة المطبوعة لكتاب الوزان في آراء الأوروبيين في ما يتعلق بالطبيعة وسكان أفريقيا. درست ذلك الأثر من خلال مراجعتها لمذكرات الأوروبيين الأدبية وكتاباتهم، ما أخذوه من الوزان، وما قاموا بصياغته أو تجاهلوه.

الجديد في البحث عن ليون الإفريقي كتاب «رحلات مراوغ: في البحث عن ليون الأفريقي، مسلم من القرن السادس عشر بين عالمين» للباحثة الأميركية ناتالي ديفيس، التي تلاحق الوزان منذ كان صبياً عندما رحلت عائلته الى فاس بعد أو قبل سقوط غرناطة، ورحلاته مع عمه الى مناطق البربر، ومن رحلاته الى السلطنات المغربية مبعوثاً لسلطان فاس، ورحلته الى إفريقيا وزياراته الى القاهرة وتركيا ورحلته الى روما. تعيد ديفيس حكاية الوزان عبر طرح التساؤلات وتخيّل سيناريوهات والدخول في عقل الرحالة الذي ترى أن كتابه «وصف إفريقيا» أهم ما كتب وترك أثراً في جانبي البحر المتوسط، لكنّ صمتاً يغلّف حياة كاتبه سواء في المصادر العربية أو الغربية. تعيد ديفيس رسم الحياة الثقافية في المغرب والفاتيكان، حيث تطلعنا على عالم مليء بالتطورات السياسية والتساؤلات الثقافية والشهوة للمعرفة التي أسهم فيها الوزان بقدر مهم.

بالنسبة الى ديفيس، الوزان شخصية تُفهم من خلال النص، فهو نص أكثر منه شخص حقيقي، وما كتبه يُعتبر أهم من حكايته الحقيقية، تنتهي ديفيس في بحثها عن إشارات وألغاز للتخلّي عن مهمتها البحث عن مصير الوزان الذي لم نعرف ما حدث له بعد نهب روما 1527.

مارتن غير

النافل أن ديفيس اشتهرت عالمياً بكتابها «عودة مارتن غير» (1983)، الذي اقتُبس عنه فيلمان: الأول فرنسي من إخراج دانيال فيني (سيناريو جان كلود كاريير، بطولة جيرار ديبارديو وناتالي باي)، والثاني أميركي من إخراج جون أمييل (بطولة ريتشارد غير وجودي فوستر). مارتن هو مزارع فرنسي عاش في القرن السابع عشر، اضطرّ للفرار من مسقط رأسه في بلدة أرتيغا (جنوب غرب فرنسا) بعد اتهامه زوراً بالسرقة. هكذا لجأ إلى إسبانيا حيث تجنّد في جيش بيدرو دي ماندوزا، وفقد رجله اليمنى خلال إحدى المعارك في فلندرا. بعد ثماني سنوات من الغياب، عاد إلى بلدته ليجد أن شخصاً يشبهه، انتحل هويته وعاش مع زوجته بيرتراند وأنجب منها طفلتين. استغرق الأمر ثلاث سنوات كاملة من المعارك القضائية، ليثبت العائد أنّه مارتن غير الحقيقي ويعترف مارتن غير المزيّف بالخديعة، ويكشف أنّ اسمه الحقيقي أرنو دو تيله!

لا توجد أية صلات بين مارتن غير وليون الإفريقي. كل ما هنالك أن ديفيس وقعت بالمصادفة خلال الأبحاث التي كانت تجريها عام 1952 للتوثيق لقصة مارتن غير على كتاب من الحقبة ذاتها يحمل عنوان «وصف تاريخي لأفريقيا بقلم جان ليون الأفريقي». كانت ديفيس تدقّق في الأعمال التي طبعها الناشر تومبورال لأن بعضها جاء على ذكر قصة مارتن غير، وإذا بها تقع في غرام شخصية أخرى أكثر غرابة وتشويقاً، هي شخصية «ليون الإفريقي». قرّرت المؤرّخة الأميركية، وكانت يومذاك في الثلاثين، أن تخصّص لليون لأفريقي بحثاً منفصلاً ما أن تنهي كتابها عن مارتن غير. لكنها لم تأخذ في الحسبان أن شبح «المكارثية» سيخيم على حياتها وحياة زوجها، عالم الرياضيات شاندلر ديفيس الذي سُجن وطُرد من الجامعة عام 1960، بينما سَحب منها مكتب التحقيقات الفدرالي FBI جوازها ومنعها من السفر خارج الولايات المتحدة لأكثر من عشر سنوات... تلك المكارثية الراعبة جعلت صدور كتاب ناتالي ديفيس الأول عن مارتن غير يتأخر حتى عام 1983.

أما مشروع بحثها المتعلّق بليون الإفريقي، فأبصر النور السنة الماضية، بعدما بلغت صاحبته التاسعة والسبعين، تذكر ديفيس أنها استشارت أمين معلوف في كتابها أثناء العمل عليه. تدرس كتابات الوزان بدقة وتقارن في ما بينها، وترى أنه عاش في روما مستغلاً مكانته العلمية الكبرى ومعرفته الفائقة بالقرآن والإسلام. كان علماء روما وأثرياؤها ينحنون أمام علومه. نظم الوزان الكتب والمخطوطات العربية الموجودة في مكتبة الفاتيكان، وأضاف إليها كتبه، خصوصاً عمله الهائل «وصف أفريقيا». أدركت ديفيس أنّها إذا سعت إلى إسقاط المعلومات والأخبار غير المؤكدة كلها، أو تلك التي تتضارب بشأنها المصادر التاريخية، فلن يبقى لها من ليون الإفريقي أي شيء يُذكر، فلا شيء مؤكداً عن حياته وسيرته، سوى ألقابه الثلاثة التي عُرف بها في مختلف مراحل حياته، وبقيت منها آثار مخطوطة، وهي «حسن الوزان» ثم «يوحنا الأسد» فـ «يوهانيس ليو». أما لقبه الأشهر «ليون الإفريقي»، فلم يظهر سوى لاحقاً، وهو من ابتكار ناشري أعماله بعد وفاته!

أمين معلوف

يعتبر أمين معلوف في روايته «ليون الإفريقي»، أن ليون مجاز أو معادل له ولهويته التي تجاوزت الخلافات وتعالت على الهويات اللغوية والدينية والقومية المحددة، خصوصاً أن معلوف ينتمي الى بلد محاصر بالهويات والولاءات وينتمي الى عائلة أصبحت شجرة امتدت فروعها في العالم، وتلونت بتلوّن الطوائف والاثنيات، وسبق أن كتب عنها رواية «أصول» هي مرآة لكل عائلة لبنانية كبيرة. يقول ليون الإفريقي بطل معلوف {جئت من لا بلد، ولا مدينة ولا قبيلة}، ويضيف واصفاً نفسه «أنا ابن المفاوز، بلدي هو القافلة. كل اللغات والصلوات هي لي».

لا يعاني الوزان هنا من إشكالية الهوية وتوزّعها، فهو يقول: «أنتمي إلى ثقافة بلدي الأصلي وبلد المتبني». هو ابن قبيلة تزرع الصحراء وتعيش في الواحات، وعندما تجف مياهها تنتقل الى مكان آخر، عائلة الصحراء متشابكة، فالطرقات المتعددة لا تبني جذوراً ولكن ثقافات. «ليون» أمين معلوف، رجل من المتوسط عاش وعايش ثقافات متعددة، ومع أنه شخصية مفتوحة إلا أنه فتح نقاشاً حول هوية الكاتب وولائه وأفكاره، خصوصاً تلك التي خلفها في وصفه لأفريقيا. يلاحظ في هذا الكتاب أن الوزان مارس لعبة حيلة أو خداع للقارئ، كوسيلة للخروج من مأزقه، مأزق الهوية الجديدة.

كان الوزان صامتاً وهو يكتب كتابه، لم تكن قدرته على استخدام الإيطالية جيدة على الرغم من مكوثه عشرة أعوام في روما، حول هويته الدينية الجديدة، فهو لم يشر إليها ولا الى أسره ونقله إلى الفاتيكان وتعميده، هذا الصمت هو جزء من استراتيجية الحيلة التي مارسها ليون الإفريقي، فكتابته المترددة بين عالمين ووضعه الغريب والمتطرّف جعلاه ينتبه إلى حقيقة مهمة وهي أنه كان يكتب لجمهور مختلف أوروبي وآخر مسلم، من هنا حتم عليه توزّعه بين هذين البعدين استخدام قناع يخفي هويته ويبدو محايداً كما يشير بعض الكتاب، فهو، عندما يكتب عن تاريخ إفريقيا، لا يتردد في نقد الممارسات الشعبية والطقوسية والخلط في معتقدات الأفارقة، وفي الوقت الذي يثمن فيه جمال مدن الشرق ينتقد عادات الأكل من قدر واحد، حيث لا يلتفت الكثيرون إلى آداب الطعام، يأكلون بأصابعهم من قدر واحد وبسرعة، من دون مناشف أو سكاكين، ويشربون في نهاية الطعام إبريقاً من الماء، وذلك يخالف الآداب الأوروبية.

من بين المخطوطات التي تركها ليون الإفريقي في فترته الأوروبية، كتاب ينتمي إلى كتابات الطبقات الإسلامية، كتبه من خاطره واعترف فيه بضعف الذاكرة، وكتاب في الفقه المالكي وكتاب عن الوقائع الإسلامية، وأخيراً كتابه الأبرز «وصف إفريقيا»، الذي كان له تأثير‏ كبير عند الرحالة والعلماء الأوروبيين منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، وليس بإمكان أي باحث عن تاريخ إفريقيا تجاهل المعلومات الواردة فيه، خصوصاً عند المستشرقين وعلى رأسهم المستشرق هارتمان الذي يعتبر كتاب «وصف إفريقيا» كنزاً من الذهب، ولولا وجوده لخفيت على أوروبا أمور كثيرة، والملاحظ أن قيمة هذا الكتاب تتجلى في ملاحظات المؤلف الشخصية التي كان يبثها في ثناياه بين الفينة والفينة، وشعاره دائماً وصف ما شاهده بأم عينه، وما قرأه في الموثوق من المؤلفات، لكنها ضاعت منه في ظروف الأسر وعندما استقر به المقام في روما، شرع في تصنيفها، حتى انتهى من تدوينها في مارس (آذار) 1526 باللغة الإيطالية.‏ على أن الترجمة الأولى لـ»وصف إفريقيا» صدرت بالعربية عام 1980 بتوقيع محمد حجي، أستاذ التاريخ في جامعة الرباط. يرى حجي أن تنصّر الوزان لم يكن حقيقياً وأن هناك أدلة كثيرة تؤكد أنه مات مسلماً، من دلالات ذلك أن الوزان كان يشير عندما يتحدث عن المسلمين بعبارة نحن.

سواء تنصّر أو لم يتنصّر، يبقى الحسن الوزان ذلك اللغز الجميل، يحاول كل فريق جعله قناعا لثقافته، هذا إيماء الى ضبابية هويته، الهوية التي يعتبرها أمين معلوف من الكلمات المضللة، ويوضح أبعاد هذا الوصف، متوقفاً عند تجزئة الهوية الى عناصر مختلفة واعتماد عنصر منها من دون آخر. يرى أن فكرة الهوية تحتاج اليوم الى إعادة بناء. يقول :»منذ أن غادرت لبنان للاستقرار في فرنسا، كم من مرة سألني البعض عن طيب نية إن كنت أشعر بنفسي «فرنسياً» أم «لبنانياً». كنت أجيب سائلي دئماً: «هذا وذاك!»، لا حرصاً مني على التوازن والعدل بل لأنني سأكون كاذباً لو قلت غير ذلك. ما يحدد كياني وليس كيان شخص آخر هو أنني أقف على مفترق بين بلدين، ولغتين أو ثلاث لغات، ومجموعة من التقاليد الثقافية. وهذا بالضبط ما يحدد هويتي».